الخرسانة أو (Concrete باللغة الإنجليزية، مشتقة من المصطلح اللاتيني: concretus)، تلك المادة السائلة المركبة، والتي وبمرور بعض الوقت تتحول إلى مادة صلبة، تمكن الإنسان من بناء كل شيء في حضارته الحديثة.
مجموعة من العمال يقومون بعمل خلطة خرسانة في أحد مواقع البناء، Iniabasi Udosen، CC BY-SA 4.0، via wikimedia commons. |
ولتدرك ارتباط طريقة عيشنا بالخرسانة، يكفي فقط أن تعلم أنها ثاني أكثر مادة نستخدمها في عالمنا مباشرة بعد الماء، وهي في نفس الوقت أكثر مواد البناء استخداما على الإطلاق.
دعونا نستكشف معا الخرسانة، تلك المادة التي يستخدمها العالم بمقدار ضعف ما يستخدمه من مواد (الفولاذ والخشب والبلاستيك و الألومنيوم) مجتمعين، وقد تقوده إلي الهلاك إذا لم يراجع حساباته معها سريعا.
مكونات الخرسانة:
تتكون الخرسانة من مادة جسيمية صلبة وخاملة كيميائيا، تسمى (الركام).
هل يبدو ذلك التعريف صعبا؟.. انتظر إن هذه المادة ببساطة عادة ما تكون (الرمل والحصى).
بقية مكونات الخرسانة هي الأسمنت والماء، إنهما العنصرين اللذان يؤديان مهمة ربط الخليط بعضه ببعض.
ثم تأخذ الخرسانة شكل العجينة المرتبطة ببعضها بشكل وثيق، والتي بمرور القليل من الوقت لا يتعدي ساعات معدودة، تبدأ في التماسك، وبمرور المزيد من الوقت، تكتسب قوة لتصبح مثل الأحجار والصخور، ما يكسب المباني المختلفة قوتها وتماسكها.
ومن تلك المكونات، يمكننا أن نعرف الخرسانة بأنها: ((مزيج من الركام "الرمل والحصى أو قطع صخور مفتتة" تترابط معا باستخدام الأسمنت البورتلاندي، ويقوم الماء بتحويل هذا المزيج إلى كتله شبه متجانسة وكثيفة)).
ولعل هذا التوضيح السابق مهم للكثير من الأشخاص الذين يخلطون بين الخرسانة وبين الأسمنت، فالأسمنت هو مجرد جزء من مكونات الخرسانة وليس الإثنان شيء واحد.
وكذلك، فإن هذا التوضيح يجعلنا نفرق بوضوح بين الخرسانة وهي مادة بناء، وبين الملاط (يسمي "المونة" في بعض الدول العربية) وهو مادة تربط بين البلاط والطوب، ومع تشابهها مع الخرسانة في بعض المكونات إلا أنها تخلو من الحصي.
خصائص الخرسانة:
أصبح هناك شاحنات مخصصة لنقل الخرسانة من مواقع خلطها إلى أماكن البناء والانشاءات، High Contrast، CC BY 3.0 DE، via wikimedia commons. |
ليست قوتها فقط هي من جعلت الخرسانة تصل لتصبح أكثر مواد البناء استخداما، إن لها العديد من الخصائص والمميزات الأخرى، مثل:
- إمكانية استخدامها في العديد من الأغراض.
- تكلفتها الاقتصادية التي تجعل الكثيرون قادرين على البناء باستخدامها.
- المرونة التي تتمتع بها، وهذه هي الميزة الرئيسية للخرسانة، فهي مرنة عند خلطها، وقوية ومتينة عند تصلبها.
- مقاومة ولا تتأثر بالعديد من الظروف البيئية التي قد تؤثر أسهل بكثير على مواد البناء الأخرى.
- سهولة استخدامها، لأنها تكون على شكل عجينة سائلة ما يجعل من السهل صبها في المكان المراد استخدامها فيه، كما تمكن المهندسين والبنائين من تصميم وبناء أي شكل يدور في خيالهم.
كل هذه الخصائص تجعل الخرسانة من أفضل مواد البناء التي بين أيدينا.
البروفيسور فرانز جوزيف أولم، مدير هيئة التدريس في مركز الاستدامة الخرسانية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (CSHub) يوضح السبب الذي يجعل الخرسانة قوية جدا بأنه التفاعل الكيميائي الذي يحدث عندما يمتزج الأسمنت والماء، وهي عملية تعرف باسم الترطيب.
في هذا التفاعل تذوب مكونات الأسمنت مثل الكلنكر في الكالسيوم ويتحد مع الماء والسيليكا لتكوين هيدرات سيليكا الكالسيوم.
هذه المادة ((هيدرات سيليكا الكالسيوم))، أو CSH هي كلمة السر في صلابة الأسمنت ومن ثم الخرسانة، لأنها تشكل روابط قوية للغاية.
أنواع الخرسانة:
الخرسانة المسلحة هي خرسانة عادية مضاف اليها حديد التسليح، ما يزيد من قوتها وتحملها، CC0 Public Domain. |
ما سبق كله عزيزي القارئ كان عن الخرسانة العادية، لكن الخرسانة ظهرت منها أنواع متعددة، حيث تضاف لمكوناتها الأساسية خلطات وهي عبارة عن مواد كيميائية تغير من خصائص الخرسانة لتتناسب مع ظروف البيئة التي ستستخدم فيها، فظهر لدينا:
- الخرسانة التي تتحمل درجات الحرارة العالية.
- الخرسانة التي تستخدم في درجات الحرارة المنخفضة.
- الخرسانة المقاومة للرياح الشديدة.
- الخرسانة المستخدمة في الإنشاءات البحرية.
- الخرسانة المسلحة: لجعل الخرسانة أكثر مقاومة يتم خلطها بالفولاذ فيصبح لدينا "خرسانة مسلحة"، وتوفر هذه النوعية من الخرسانة ميزة مهمة جدا تتمثل في أن الحديد يساعد على استيعاب الضغط والشد، ما يجعل المباني أكثر قوة وتحملا.
- الخرسانة عالية الأداء (HPC): ظهرت ابتداءً من الثمانينيات، وتتميز في أنها تقلل من (المسام) في روابط مادة هيدرات سيليكا الكالسيوم التي تنتج عند تفاعل خليط الخرسانة.
هذه المسام صغيرة جدا لدرجة أنها بمقياس 3 نانومتر، ومع ذلك، فقد ظهرت هذه الخرسانة لتقلل منها أكثر.
كذلك تدخل نسبة الخلط (نسبة الأسمنت وبقية المكونات في الخليط) في تحديد قوة الخرسانة وجودتها وحتى الغرض الذي ستستخدم فيه، وهذه تكون مهمة المهندسين المشرفين على البناء.
استخدامات الخرسانة:
لكل ما سبق، آمن المهندسين والمختصين بأعمال البناء والتشييد بالخرسانة وقدرتها على العمل في جميع أنواع المباني:
في كل تلك المباني وغيرها، يتم استخدام الخرسانة في أساسات المباني والأعمدة والكمرات والألواح والهياكل، بل وقد أصبح له استخداماته حتى في الزخرفة والديكورات، وغيرها من الاستخدامات الأخرى.
حتى خطوط الأنابيب مثل أنابيب المياه والكهرباء تدخل الخرسانة في مدها تحت الأرض.
تاريخ الخرسانة:
إذا أردنا تحديد فترة زمنية معينة بأنها هي التي تم ابتكار الخرسانة فيها، فسينبغي علينا أولا أن نحدد .. ماذا نقصد بالخرسانة؟.
ذلك لأنه ومنذ عصور قديمة، كان البشر في بعض الحضارات، يستخدمون أسمنت خام يُصنع عن طريق سحق وحرق الجبس أو الحجر الجيري.
على سبيل المثال، كان الآشوريين والبابليين القدماء يستخدمون الطين في أكثر المباني التي يشيدونها.
لكن المصريين القدماء اكتشفوا أنهم إذا أضافوا الرمل والماء إلي الجبس أو الحجر الجيري، فإنه ينتج لديهم مادة أسماها (ملاط) كانت عبارة عن مادة تشبه الجبس، واستخدمها الناس في لصق وتثبيت الحجارة بعضها ببعض.
هذه المادة التي قدمتها الحضارة المصرية القديمة كانت شديدة التشابه في العديد من خواصها مع الخرسانة الحديثة.
مع ذلك، ظل هناك فارق أساسي آخر بجانب مكونات تركيبة الخرسانة، وهو أسلوب استخدامها نفسها.
مدرج روماني بني بالحجارة ويظهر فيه بوضوح استخدام خلطة الخرسانة، Mark Cartwright (CC BY-NC-SA). |
الشعوب القديمة، استخدمت هذه الخرسانة من أجل تثبيت المباني التي تبنيها بالطوب، سواء المنازل وحتى القلاع والحصون.
في حين إننا في الوقت الحالي، نصب الخرسانة في قوالب سواء كانت جاهزة أو يتم فكها وتركيبها.
وعلى مدار قصة الحضارة عبر آلاف السنين، استكشف البشر إمكانية دمج العديد من المواد الأخرى في هذا الخليط، ليصبح بين أيدينا الخرسانة الحديثة التي نستخدمها في أيامنا هذه.
وهكذا .. ظلت الخرسانة تبني بيوتنا ومجتمعاتنا بالكامل منذ 10000 عام قبل الميلاد، وحتى المنازل الحديثة المبنية بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد.
وفي العام 1824، قام المخترع الإنجليزي (جوزيف أسبدين) بحرق وطحن مركب يتكون من الحجر الجيري والطين ليظهر لنا (الأسمنت البورتلاندي) وهو الأسم الذي ما يزال مهيمن على إنتاج الخرسانة حتى الآن.
لكن دوما ما يشار إلى زلزال كاليفورنيا عام 1906، باعتباره النقطة التي شهدنا فيها الظهور الأول للخرسانة بمفهومها الحديث.
هذا الزلزال الكارثي أودى بحياة 3 آلاف شخص أو يزيدون، ودمر 80% من المباني في مدينة سان فرانسيسكو، وتسبب في تشريد 200 ألف من السكان.
ما حدث في هذه الكارثة كان سببه الرئيسي يعود إلى أن معظم المباني في سان فرانسيسكو وقتها كانت مبنية من الأخشاب، ما ساعد على انتشار الحرائق فيها بشكل سريع للغاية، مضخما من حجم الكارثة.
وهنا ينتبه البشر إلى ضرورة تغيير مواد البناء التي يشيدون بها منازلهم.
أضرار الخرسانة:
الخرسانة المسلحة هي أكثر أنواع الخرسانة استخداما في المباني الجديدة، Bruce MacRae، CC BY-NC-SA 2.0، via wikimedia commons. |
بالرغم من فوائدها المتعددة، لم يعد من الممكن حجب الأضرار التي تتسبب بها الخرسانة.
ليس هناك مبالغة إذا ما قلنا أن الخرسانة أصبحت تهدد صحة الإنسان.. بل وكوكب الأرض نفسه.
يزيد من تلك الخطورة، أننا نستخدم الخرسانة بشكل مفزع.
في الوقت الذي تستغرقه لقراءة هذه الجملة فقط، سيكون العالم قد صب أكثر من 19 ألف حوض استحمام (يسميه البعض البانيو).
أما إذا رفعنا الوقت إلى يوم واحد فقط، فإن العالم سيكون قد أضاف خرسانة جديدة تعادل حجم (سد المضائق الثلاثة) .. (يمكنكم قراءة تقريرنا عن هذا السد من هنا: سد "الممرات الثلاثة" الصيني.. أضخم سد في العالم الذي ابطأ حركة كوكب الأرض).
في حين لو فكرت في كمية الخرسانة التي نستخدمها كل عام، فإنها كافية للبناء فوق مساحة دولة إنجلترا بالكامل.
نحن نستخدم هذه الكميات الهائلة من الخرسانة لأن العالم يسير بسرعة الصاروخ للعيش في المدن بدلا من القري، وفي نفس الوقت، فإن أسعار مواد البناء الأخرى ترتفع بشكل كبير.
خلقت المدن ظاهرة (الجزر الحرارية) أي أنها تكون أكثر في درجة حرارتها من كل المناطق المحيطة بها، وأهم أسباب ذلك هو أسلوب بناء تلك المدن المعتمد أساسا على مباني مصنوعة من الخرسانة، ركزت على البعد الاقتصادي، وأهملت العوامل البيئية والاجتماعية.
فماذا كانت النتيجة؟.. ببساطة تغير المناخ، حيث أصبح الطقس متطرفا، شديد الحرارة في بعض المناطق بشكل لا يطاق، وفي أماكن أخرى تنهمر الأمطار بمعدلات غير مسبوقة.