عندما نتحدث عن (أرطغرل) فإننا نكون في وسط معركة تاريخية عنيفة، بين من يرفع قدره وإنجازاته ليجعله أحد أبرز أسماء التاريخ الإسلامي، وبين من ينكر وجود تلك الشخصية أصلا.
لوحة تصور شخصية أرطغرل، Derviş Mehmed، public domain via wikimedia commons. |
بين هؤلاء وهؤلاء .. نقف في المنتصف، نستطلع حجج وبراهين كل فريق، لنحاول أن نصل معا إلى الحقيقة حول أرطغرل الغازي.
ونحن حين نفعل ذلك فإننا ننحي أنفسنا جانبا بعيدا عن المسلسل التركي الشهير الذي نجح نجاحا هستيريا في الكثير من الدول العربية والإسلامية .. ونبحث فقط عن حقائق التاريخ لا عن إثارة الدراما.
قصة أرطغرل من المصادر التركية:
حسب المصادر التركية، هو أرطغرل بن سليمان شاه، الذي عاش بين عامي 1191 : 1281م، وهو والد (عثمان الأول) مؤسس الدولة العثمانية.
وبينما هناك خلاف حول سنة ميلاده، وهو أمر دارج وطبيعي في التاريخ، إذ تشير مصادر أخرى أنه ولد عام 1189، فإن اسمه يعني في اللغة التركية (الرجل العقاب).
أما كلمة غازي في اللغة التركية، فتعني (المقاتل) أو (المجاهد) في سبيل الله، وهو لقب وليس تكملة اسمه.
وحسب الرواية التركية كذلك، فبالرغم من أن (عثمان الأول) هو المؤسس الرسمي لدولتهم، إلا أن والده (أرطغرل) كان هو من مهد له الطريق، ووضع لبنات الصرح الذي عاش لنحو ستة قرون يحكم أرجاء العالم الإسلامي.
فوفقا لتلك الروايات، شارك الرجل في حروب السلاجقة الأتراك ضد المغول، كما كان له دور بارز في تعزيز تواجد قبيلته في هضبة الأناضول التي تأسست علي أرضها دولتهم.
الرواية العثمانية تضيف عنه أنه ومع وصوله إلى الأناضول، دخل في خدمة سلطنة سلاجقة الروم، وهي سلطنة مسلمة حكمت المساحة من وسط الأناضول إلى شواطئ المتوسط لنحو قرنين من الزمان.
تمثال للسلطان علاء الدين (كَيقُبَاد الأول) موجود حاليا في مدينة ألانيا التركية ozgurmulazimoglu، CC BY-SA 3.0 DEED، via wikimedia commons. |
بحسب تلك الرواية، فإن حاكم تلك الدولة وقتها السلطان علاء الدين، أعطاه ولاية منطقة تسمي (سكودا) ونطقها الأصح (سوغوت)، التي ستصبح فيما بعد أول عاصمة للعثمانيين على يد عثمان الأول.
كان ذلك بحسب تلك الرواية مكافأة له على أنه وخلال سيرة بقبيلته، التقي في صدفة غريبة للغاية بمعركة كانت تدور بينهم وبين جيش من جيوش البيزنطيين النصاري، وكانت الغلبة للطرف الثاني، فأنضم أرطغرل وكان معه في قبيلته 400 فارس إلى سلاجقة الروم، لتنتهي المعركة بانتصار المسلمين.
وعلى ما يبدو أيضا من النظرة الجغرافية لموقع منطقة (سوغوت) التي منحها السلاجقة الروم له، وكونها منطقة حدودية مع البيزنطيين، أنهم أرادوا جعله حائط صد لأي توغل بيزنطي لأراضي مملكتهم من تلك الناحية.
وتمضى القصة للقول بأن أرطغرل واصل السيطرة على بعض من أراضي البيزنطيين من جهته، وغالب الظن أن ذلك إن كان قد وقع بالفعل، فقد تم بموافقة السلطان علاء الدين، والذي تضيف تلك الرواية أنه قرب أرطغرل منه.
لكن لم تدوم الأمور على حالها، ففي أعقاب ذلك وقعت واقعة هزت السلطنة عندما تم تسميم السلطان علاء الدين والمعروف أيضا باسم (كَيقُبَاد الأول) على يد الأمير (سعد الدين كوبك)، الأمر الذي ثار عليه أرطغرل، وأعلن استقلاله بما تحت يديه من أرض.
قصة أرطغرل من المصادر التاريخية:
((لا أحد يعلم من هو أرطغرل ولا من أين جاء)).
بهذه العبارة التي قالها المؤرخ الإسلامي الكبير الدكتور راغب السرجاني، ينكشف لنا حجم الهوة والاختلاف الضخم بين المصادر التاريخية الموثوقة وما تردده المصادر التركية عن أرطغرل.
هذا ليس رأي الدكتور راغب بمفرده .. دعونا نمضي إلي الأمام ونبحث أكثر لنجد أن حتى أكثر المؤرخين تنقيبا وارء أرطغرل، كل ما يقولونه بشأنه أن هذا الشخص ثبت تاريخيا فقط من خلال العملات المعدنية التي سكها (عثمان الأول) مؤسس الدولة، وذكر فيها أنه اسم والده.
أول عملة في تاريخ الدولة العثمانية والتي تم سكها بواسطة (عثمان الأول) مؤسس الدولة، Unknown author، public domain via wikimedia commons. |
ويضيف فريق المؤرخين هذا أنه ((لا يوجد شيء آخر معروف على وجه اليقين عن حياته أو أنشطته)).
أما بقية المصادر التي تتحدث عن أرطغرل، فهي صدق او لا تصدق مبنية بالكامل على الحكايات الشعبية، تلك التي يضيف إليها خيال الناس الكثير من الأحداث التي لم تقع أصلا.
عائلة أرطغرل:
إننا إذا تحدثنا عن عائلة أرطغرل، من مبدأ أن الحقيقة الوحيدة المؤكدة عن أرطغرل، هي أنه والد (عثمان الأول)، فذلك سيقودنا تلقائيا إلى خلاف تاريخي آخر يتعلق بأبسط الأشياء عن أرطغرل .. وهو من والده؟.
بينما تشير المصادر العثمانية التقليدية أنه كان ابنًا لسليمان شاه، زعيم قبيلة قايي (تنطق أيضا: كايي)، وهي واحدة من أكبر القبائل التركية ومن بين أكثرها شهرها، وتنتمي إلى اتحاد قبائل أكبر يسمي (أوغوز) أو (الأوغوز).
لكن الملاحظ على هذا الادعاء شيئين:
- الأول: أنه لم يكتب إلا بعد 100 : 150 عام من تأسيس الدولة العثمانية، ما يعني أنه قد يكون موجها من حكامها في ذلك التاريخ.
- الثاني: أن هذا الإدعاء قد تطاول بشكل مذهل ليرسم شجرة نسب أرطغرل، وصولا حتى نبي الله نوح -عليه السلام-.
هذا الإدعاء نفسه غير صامد حتى أمام المؤرخين الأتراك أنفسهم.
في كتابه (بين عالمين: بناء الدولة العثمانية) ينتقد المؤرخ التركي (جمال قفادار) هذا الأمر، ويصفه بأنه "إعادة اكتشاف" لا دليل عليه في أي مصدر تاريخي في تلك الفترة.
ويتماشي مع هذا الرأي بحث نشرته جامعة كامبريدج البريطانية عام 1976 بعنوان ((تاريخ الإمبراطورية العثمانية وتركيا الحديثة)).
ويقول عن ذلك المؤرخ الدكتور راغب السرجاني: ((إننا لا نعرف عنه شيء، لدرجة أن اسم والده غير معروف، وهناك خلاف بين المؤرخين عليه)).
كل هذه المصادر يتحالف معها العديد من المصادر التاريخية الأخرى التي لا يمكن ذكرها بالكامل في هذا التقرير.
أما عن أخوته، فبحسب العديد من المصادر التركية، كان له ثلاثة أشقاء هم: (سونغور تكين)، و (غوندوغدو)، و (دوندار).
زوجة أرطغرل:
وكأنه قد كتب علينا التنازع حول كل شئ يخص أرطغرل، فقد أمتد النزاع التاريخي ليصل إلى زوجته التي قيل أنه كان يحبها بشكل كبير.
((حليمة خاتون)).
مثل زوجها، فإن إصولها غير معروفة، ولم يتم ذكرها على الإطلاق في أي نصوص تاريخية من وثائق العثمانيين.
ويقول المؤرخ والمستشرق الأمريكي (هيث دبليو لوري) ومعه عدد من المؤرخين العثمانيين أن زوجة أرطغرل هي سيدة غير معروفة.
قبرها يقع حاليا في حديقة قبر أرطغرل الغازي في سوغوت، بتركيا، حيث أضافه إلى الحديقة حفيدها ((السلطان عبد الحميد الثاني)) في أواخر القرن التاسع عشر.
على العموم، يعتقد أن السيدة حليمة خاتون أو أيا كان اسمها الحقيقي، قد أنجبت له ثلاثة أطفال، أشهرهم بالطبع هو (عثمان الأول).
للمفارقة، فإن عثمان الأول وبالرغم من أنه صار خليفة والده، إلا أنه كان أصغر أبناء أرطغرل، بل إنه رزق به في سن كبيرة (كان قد بلغ 67 عاما يوم ولد)، وبالتأكيد كانت زوجته وقتها في سن لا يسمح للنساء بالانجاب.
لذا، اعتبر أرطغرل ميلاد (عثمان الأول) بمثابة المعجزة وهدية من الله، فكان أحب أبناءه له، وخليفته من بعده.
أما بقية أبناء أرطغرل فكانا (غوندوز) و (سافجي)... وإن كان هذا الأخير بالتحديد هناك خلاف حوله، وهل كان لأرطغرل ابنا بهذا الاسم ام لا؟.
ولك أن تتخيل يا عزيزي أن اسم ابنه (غوندوز) يفتح الباب على مصراعيه أمام الاحتمال الثاني لمن يكون والد أرطغرل.
ذلك لأن هناك مصادر أخرى وهي مصادر عثمانية أيضا من القرن الخامس عشر، تشير إلى أن أرطغرل كان ابنا لرجل يدعي (غوندوز ألب)، وبذلك يكون مفهوما أن يسمي ابنه تيمنا باسم أبوه.
وكان من الممكن أن نقول أن هذا مجرد ((قرينة))، وأن تشابه الأسماء بين الجد والحفيد هو محض صدفة .. لولا ظهور (الدليل).
هل تذكرون العملات التي صكت في عهد عثمان الأول وقلنا أنها المصدر التاريخي الوحيد الموثق لأن رجلا كان اسمه أرطغرل عاش على ظهر كوكبنا ذات يوم.
النقش الكامل المدون على هذه العملات كان كما يلي "عثمان بن أرطغرل بن غوندوز ألب" .. ما يجعلنا نرجح وبشدة أن يكون أرطغرل هو ابنه بالفعل وليس ابنا لسليمان شاه.
لكن المفاجأة الكبرى والتي نختم بها هذه الجزئية والتي تزيد من الاضطراب في القصة، هي أن هناك من المصادر ما تذكر أن الأسمين (غوندوز ألب) و (سليمان شاه) هما لرجل واحد !!!.
ما هي قصة أرطغرل الحقيقية؟:
في النهاية وكما نحب في ((المعرفة للدراسات)) أن نترك دوما لمتابعينا حرية التفكير وتكوين رأيهم الخاص، فإننا لن نغير ذلك هذه المرة، لكن سنحاول أن نفكر معا بصوت عالي.
من كل ما سبق، نكاد نشعر أن قصة أرطغرل الحقيقية هي ((لا شيء)).
فلسنا متأكدين من هو والده أصلا، وحتى الحديث عن تركه هو وقبيلته موطنهم الأصلى في غرب آسيا هربا من زحف جيوش المغول في العام 617 ه / 1220 م، فحتى تلك الواقعة ليست له هو بشخصه فحسب، بل كانت هجرة لقبيلة كاملة بل ربما لمجموعة قبائل.
كما أننا لو ألقينا نظرة على تلك الحقبة، لوجدنا أن المؤرخين ذكروا أبرز القادة بها من بين جميع أطرافها الأساسيين (البيزنطيين، الصليبيين، المغول، والمسلمين)، لكن هذا لا يندرج على أرطغرل.
فلا هو مذكور عند المؤرخ البيزنطي الشهير المعاصر لتلك الفترة (جرجس باشيميرس)، ولا فيما كتبه الإمبراطور البيزنطي (يوحنا السادس قانتاقوزن) والذي كان مؤرخا في الأصل.
وينطبق هذا حتى على المؤرخين المسلمين مثل (ابن فضل الله العمري) والرحالة (ابن بطوطة)، واللذان وللمفارقة قد كتبا عن (عثمان الأول) لكنهما لم يذكرا أرطغرل على الإطلاق.
وعدم الذكر هذا، يبرره الدكتور السرجاني بأنه لم يكن شخصية لامعة في زمانه، وبالتالي لم يكن هناك أحد يهتم بتسجيل تاريخه.
إننا في بحثنا هذا تذكرنا مقولة المؤرخ الشهير ((كولن إمبر)) التي قال فيها: "أفضل شيء يمكن أن يقوم به المؤرخ هو الاعتراف صراحة بأن تاريخ العثمانيين المبكر عبارة عن ثقب أسود، وأن أي محاولة لهذا الثقب لن تسفر إلا عن مزيد من الخرافات".
وقبل أن تغادرنا، نذكرك أن التاريخ لا يعرف بالمسلسلات، وأن ما شاهده الكثيرون على مدار 150 حلقة على خمسة أجزاء في مسلسل (قيامة أرطغرل) ما هو إلا محض خيال خصب لمؤلفين أرادوا تعظيم شخصية كل ما نعرفه عنها بشكل مؤكد قد لا يزيد عن بضع سطور، فأخرجوا لنا مسلسل ملىء بالخرافات.
كيف مات أرطغرل؟:
على ما يبدو مما تحت أيدينا من مصادر على قلتها والشك بما فيها، فإن الرجل مات بشكل طبيعي بفعل تقدمه في العمر، إذ كان قد تجاوز التسعين من عمره.
ويعتقد أنه قد قضى سنواته العشر الأخيرة في هدوء بعدما نقل كافة سلطاته إلى أصغر أبناءه (عثمان الأول).