في يناير من العام 2009، خرج الطبيب المصري العالمي (محمد غنيم) من قطاع غزة ومعه عينات وقطع من (الفسفور الأبيض)، وصور لمصابين فلسطينيين جراء تعرضهم لها.
الجزيرة عرضت في نفس الحرب عام 2009 مشاهد وثقت فيها استخدام جيش الاحتلال الإسرائيلي للفسفور الأبيض في غزة، Al Jazeera، CC BY 3.0 DEED، via wikimedia commons. |
كان الطبيب المشهور عالميا يريد أن يوثق الجريمة الإسرائيلية في القطاع المتمثلة في استخدام هذا السلاح بصورته المحرمة دوليا كمادة حارقة.
فماذا نعرف عن مادة (الفسفور الأبيض) وكيف يستخدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي كسلاح؟.
ما هو الفسفور الأبيض المحرم دوليا؟:
بحسب تعريف منظمة الصحة العالمية WHO، فإن الفسفور الأبيض هو مادة كيميائية صلبة ذات قوم يشبه الشمع، تكون إما مائلة للون الأصفر أو عديمة اللون.
لكنك إذا شاهدت صورته في وسائل الإعلام ستجده ذو لون داكن، ببساطة يحدث له ذلك عندما يتعرض إلى الضوء.
أما عن رائحتها، فتضيف المنظمة بأن البعض قد وصفها بأنها تشبه (رائحة الثوم).
أيا كانت الطريقة التي يتعرض بها الجسم للفوسفور الأبيض، فإنه سيكون ضارا.
هذا المركب الذي أصبح أحد الأسلحة المدمرة كانت قصة اكتشافه غريبة بشكل لا يصدق كما ترويها علينا دراسة نشرتها (جامعة بريستول) البريطانية.
ففي العام 1669 بدأ الكيميائي الألماني (هينيج براند) تجاربه التي كان يأمل من خلالها أن يستخرج الذهب من بول الإنسان !!!.
العالم الألماني هينيج براند أراد استخراج الذهب لكنه أخرج لنا الفسفور الأبيض، Joseph Wright of Derby, 1771. |
تضمنت خطته ترك وعاء به بول ليتعفن مدة أسبوع أو أسبوعين ثم تسخينه على عدة مراحل بشكل تدريجي.
هذه التجربة ذات الرائحة البغيضة لم تنتج للسيد (هينيج براند) ذهبا، لكنها خلدت اسمه باعتباره مكتشف (الفوسفور) ثم (الفوسفور الأبيض).
وفي نهاية هذه الإشارة عن اكتشاف الفوسفور الأبيض، فإنه لا يفوتنا توجيه برقية لزوجته الثرية التي قيل أنها كانت تمول أبحاثه، نعبر لها فيها عن عدم شكرنا لما فعلته.
قنابل الفسفور الأبيض:
المصطلح الشائع في وصف استخدام (الفسفور الأبيض) كسلاح في الحروب هو "قنابل الفسفور الأبيض"، لكن إذا أردنا الحديث بدقة فهي "ذخائر الفسفور الأبيض".
وذلك لأن الفسفور الأبيض يمكن أن يطلق من قنابل من الطائرات في الجو، وكذلك من القذائف التي تطلقها المدافع من البر.
بل إن الفسفور الأبيض يمكن أن يطلق بواسطة (قنابل يدوية) يحملها الجندي العادي.
لهذه القنابل استخدامين رئيسيين في ساحات المعارك هما: (توفير ستائر دخانية لحركة القوات بحيث تمنع القوات المعادية من رصدها، أو إضاءة ساحة المعركة، أو تحديد موقع القوات المعادية لقصفها) وهو يصلح لهذه المهام ليلا أو نهارا، لأنه يتوهج في الظلام.
وفي هذه الحالة فإن استخدام الفوسفور الأبيض لا يعد محرما دوليا.
صورة لانفجار قنبلة فسفور أبيض خلال أحد تدريبات الجيش الأمريكي، (Photo by Spc. Scott Lindblom, 3rd CAB Public Affairs)، public domain. |
والاستخدام الذي نتحدث عنه الآن كمادة حارقة، وهذا الاستخدام بالتحديد الذي يعد محرما دوليا بموجب (البروتوكول الثالث لاتفاقية الأسلحة التقليدية).
المشكلة هنا طالما أن الفسفور الأبيض له استخدام مباح وآخر غير مباح، فإنه سيكون من الصعب للغاية محاكمة الجيوش التي تستخدمه بشكل غير قانوني كمادة حارقة.
لكن الوضع في غزة على التحديد يعتبر حالة استثنائية، لأن غزة باعتبارها (المنطقة الأكثر اكتظاظا في العالم من حيث الكثافة السكانية) يجعل من غير المنطقي تخيل استخدامه إلا كسلاح حارق.
بهذا الشكل لا يعتبر الفسفور الأبيض سلاحا كيمائيا لأنه يعمل أساسا بالاعتماد على النار واللهب وليس على مفعوله الكيميائي.
مخاطر الفسفور الأبيض:
لعل الخطر الأكبر الذي يمثله الفسفور الأبيض هو السهولة الشديدة التي يحترق بها، فبمجرد أن يتعرض للأوكسجين سيتفاعل معه ويشتعل على الفور بدون أي وسيلة أو محفز آخر للاشعال طالما كانت درجة الحرارة 30 درجة مئوية في الجو الرطب، لكنه لن يشتعل في الجو الجاف إلا عند درجة حرارة تتراوح بين 35-46 درجة مئوية.
تمتد هذه الحالة من (السهولة الشديدة) إلى قدرته على حرق أي شيء قابل للاحتراق (منزل، عمارة سكنية، والأخطر جسم الإنسان).
هذه السهولة الشديدة في الاحتراق والحرق، يقابلها (صعوبة كبيرة) في اطفاؤه، علاوة على أنه أصلا له قدرة على الالتصاق بملابس أو جسم المصاب به.
وقد يستمر هذا الاحتراق لمدة تصل إلى ربع ساعة اعتمادًا على نوع الذخيرة المستخدمة.
ويتولد عن احتراق الفسفور الأبيض درجة حرارة رهيبة تصل إلى 800 درجة مئوية (حوالي 1500 درجة فهرنهايت) هذه الدرجة كافية حتى لإذابة المعادن، فلنا أن نتخيل ماذا تفعل في جسم إنسان.. بالتأكيد قادرة على قتله بل وتذويبه .. وبسهولة.
ماذا يفعل الفسفور الأبيض في الجسم؟:
فلسطينيين يهربون من قصف إسرائيلي بالفسفور الأبيض، Dale Spencer، CC BY-NC-SA 2.0 DEED. |
"مخيف وفظيع".. هكذا يمكننا أن نختصر تأثير الفسفور الأبيض على الجسم البشري.
يتسبب الفسفور الأبيض في حروق عميقة وشديدة في الجسم، وقد يصل إلى حد اختراق العظام.
وإذا لم يتم التعامل معه هذه الحروق طبيا بشكل سريع، فإنها قادرة على تفحم الجسم بسبب أنها ونتيجة لدرجة حرارتها الرهيبة تفقد الجسم السوائل التي فيه.
في الوقت نفسه، يؤدي استنشاق الفسفور الأبيض بعد احتراقه إلي أضرار في الجهاز التنفسي والعينين، بسبب ما يحتويه من مركبات ضارة مثل أحماض الفوسفريك ومركب الفوسفين.
رعاية وعلاج المصاب بالفسفور الأبيض:
من المعروف طبيا أن (الفسفور الأبيض) قد يعود إلى الاشتعال من جديد حتى بعد علاجه بشكل أولى (يا الله أي سلاح هذا ؟).
لذا فإن أولوية أي معالج أو طبيب يتعامل مع حالة مصابة بالفسفور الأبيض أن يوقف هذا الاحتراق.
وحتى إذا ما تم علاج الشخص الذي إصيب بالفسفور الأبيض، فإن الآثار التي سيتركها جراء الحروق التي أصابته ربما تصاحبه ما تبقي من عمره، وسيحتاج إلى اجراء جراحات ترميم وترقيع للجلد.
الفسفور الأبيض ضد غزة:
كانت واقعة الدكتور محمد غنيم هي من أوائل وقائع إثبات استخدام إسرائيل للفسفور الأبيض ضد المدنيين في غزة.
في الوقت الحالي تؤكد منظمة (هيومن رايتس ووتش) أن إسرائيل استخدمته في عملياتها العسكرية ضد غزة ولبنان.
وفي ديسمبر 2023، نشرت صحيفة ((وول ستريت جورنال)) الأمريكية الشهيرة تقريرا أثبتت فيه استخدام إسرائيل لذخائر فسفور أبيض أمريكية الصنع.
ولا عجب في ذلك، فإن أمريكا نفسها وبحسب مجلة Field Artillery (مدفعية الميدان) والتي نشرت مقالا بعنوان (القتال من أجل الفلوجة) فإن الوحدات العسكرية الأمريكية في معارك المدينة العراقية التي استعصت عليها طويلا، قد استخدمت الفسفور الأبيض.
استخدامات أخرى للفسفور الأبيض:
بخلاف استخدامه كسلاح في الحروب والمعارك، فإن الفسفور الأبيض له أيضا بعض الاستخدامات الصناعية مثل:
- أسمدة الفوسفات الزراعية.
- سم الفئران والقوارض.
وفي النهاية حفظ الله أخوتنا في غزة ولبنان من الفسفور الأبيض وكل أسلحة الفتك والبطش.