يهوذا الإسخريوطي، والذي يشار إليه اختصارا باسم (يهوذا)، هو يهوذا سمعان الإسخريوطي، الاسم الذي ارتبط تاريخيا بالشخص الذي خان المسيح -عليه السلام-، وأرشد الجنود الرومان القادمين لقتله إلي مكانه.
لوحة لشخصية يهوذا، رسمها الكاتب والرسام الفرنسي جيمس تيسو، بين عامي 1886 : 1894، من مقتنيات متحف بروكلين، نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية، European Art collection، public domain. |
ويمكننا أن نختصر حياة يهوذا الإسخريوطي بالعبارة التي قيلت عنه "كان خيرا له لو لم يولد".
اللعنة تطارد الاسم:
لقد أصبح هذا الشخص مرادفا دائما لمعني الخيانة بطول التاريخ وعرضه.. لما لا وهو صاحب أشهر وأكبر خيانة في التاريخ.
فبرغم أن اسم يهوذا كان أحد أكثر الأسماء شعبية في القرن الأول الميلادي .. كونه يحمل معني (شكر الله)، كما أنه كان قد تسمي به من قبل يهوذا أحد أبناء نبي الله يعقوب -عليه السلام-، وكذلك (يهوذا المكابي) أحد زعماء بني إسرائيل.
فمنذ ذلك اليوم الذي خان فيه يهوذا الإسخريوطي المسيح -عليه السلام-، نادرا ما تجد رجلا قد اختار أن يسمي ابنه يهوذا.
يهوذا الإسخريوطي:
يهوذا الإسخريوطي (المختلف حول تاريخ وفاته ما إذا كان سنة 33 أو 30 ميلادية)، كان تلميذًا من التلاميذ الاثني عشر الأصليين للسيد المسيح (الملقبين باسم: الحواريون) -هناك مصادر تتحدث عن كونهم 13 تلميذا ومصادر أخرى تجعلهم 17.
والده كان رجلا يدعي سيمون إسخريوطي، وأما اسم امه فكان سايبوريا الإسخريوطي.
وفقًا للأناجيل الأربعة الكنسية، مع اختلاف في التفاصيل، بداية من إنجيل مرقس والذي كان أول إنجيل يذكر قصة يهوذا (سنة 70 ميلادية) فإن يهوذا الإسخريوطي، والذي كان أحد أوثق وأقرب تلاميذ المسيح له، بل وكان هو الخازن المالي للحواريين وسيدهم عيسي -عليه السلام-.
هذا الشخص كان هو نفسه الخائن الذي أرشد الجنود الرومان واليهود إلى السيد المسيح -عليه السلام-.
ولايزال هناك خلاف أكاديمي حول لقبه "الإسخريوطي"، ففي حين يري فريق من الأكاديميين أن اللقب يعود إلى كون أصوله ترجع إلي قرية تسمي (قريوت) وهي قرية تقع جنوب القدس المحتلة.
فإن هناك رأي ثاني يقول أن لقب الإسخريوطي يشير إلي الطريقة التي مات بها، إذ قد يعني (الميت مختنقا)، وذلك لأنه ووفقا للديانة المسيحية فإن يهوذا قد أصابه الندم الشديد على ما فعل، فذهب وشنق نفسه.
ماذا حدث؟:
سيكون من الخطأ أن نجعل ما حدث كله معلقا بعنق رجل واحد اسمه (يهوذا الإسخريوطي)، بل إن اليهود الذين كانوا يعيشون وقتها في فلسطين تحت حكم الرومان كانوا متورطين بشكل مباشر.
ذلك لأن اليهود حسدوا نبي اللَّهَ عيسي -عليه السلام-، حسدوه بسبب معجزة ميلاده، ثم أن اللَّهَ قد أتاه النبوة، والمعجزات الساطعة مثل احياء الموتى وشفاء المرضى بإذن اللَّهُ.
وسيكون مفيدا هنا أن نعرف أن يهوذا الإسخريوطي نفسه جاء من عائلة تنتمي إلي طائفة (السيكاري) وهي الجماعة اليهودية الأكثر تطرفا.
فسعوا إلى ملك دمشق وقتها، وقالوا له أن هناك رجلا في القدس يفتن الناس، وأنه سيقود ثورة ضد حكمه كملك.
وكعادة الطغاة والظالمين في كل عصر، لم يقم هذا الملك الذي كان أحد عبدة الكواكب، لم يقم بالتحرى عن الأمر.
بل أرسل إلى (بيلاطس البنطي) حاكم ما كان يعرف وقتها باسم (ولاية يهودا) التابع له، بأن يمسك بهذا الرجل فيصلبه، ثم يضع الشوك فوق رأسه.
فعل اليهود ذلك برغم علمهم بأن المسيح -عليه السلام-كان نبيا من عند اللَّهُ .. لكنهم اختاروا أن يذهبوا إلى ملك مشرك ليقتله.
لكن وللإيقاع بالسيد المسيح -عليه السلام- والذي كان كثير الحركة يدعوا الناس برسالته، كان القوم يحتاجون إلى خائن يرشدهم إليه، وهنا ظهر يهوذا.
وبحسب ما تذكره الأناجيل المسيحية، فإن السيد المسيح -عليه السلام- كان يعرف بخيانة يهوذا له، وبرغم ذلك فإنه لم يفعل شيئا ضده.
بل كان أقصى ما فعله أن قاد بقية الحواريين (كان قد بقي معه 11 فقط بعد خيانة يهوذا)، وصعدوا إلى جبل الزيتون واستقروا في بستان يعرف باسم (بُسْتَانِ جَتْسِيمَانِي).
خيانة يهوذا الإسخريوطي:
قبض يهوذا الإسخريوطي ثمن خيانته لعيسي -عليه السلام- 30 قطعة من الفضة.
ونعود لاختلاف جديد هنا في قصة مليئة بالخلافات، إذ يري فريق من علماء الدين المسيحي (اللاهوتيون) بأن يهوذا قد تناول بالفعل العشاء الأخير مع السيد المسيح -عليه السلام-، وإن كان هذا الفريق يحدد تفصيلة مختلفة في طريقة تناول العشاء نفسها والمختلفة عن الطريقة المعتادة للتناول وفقا لمعتقداتهم.
الفريق الثاني يقول أن يهوذا الإسخريوطي قد انسحب سرا من العشاء قبل أن يناوله المسيح -عليه السلام- الطعام، في حين يري فريق ثالث أنه قد أخذ حصته من الطعام لكنه لم يأكلها لأن الشيطان وقتها كان قد تملك منه تماما.
وفقا للرواية المسيحية، فإن الجنود الرومان أمسكوا بالسيد المسيح -عليه السلام-، ثم قاموا بإرساله إلى (بيلاطس البنطي) والذي قام بدوره بمحاكمته محاكمة صورية، انتهت بتنفيذ حكم التعذيب والصلب والذي كان قد صدر أصلا قبل حتى أن يلقي القبض عليه.
أما الدين الإسلامي فينفي وقوع حادثة الصلب، فيقول تعالى:
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (الآية 157 : سورة النساء).
يخبرنا هذا النص القرآني فإن من جاءوا لقتل المسيح -عليه السلام- اختلفوا أصلا هل قتلوه فعلا ام لا؟ .. بمعني أنهم متأكدين من كونهم قتلوا شخصا ما، لكنهم لا يدركون هل هو المسيح ام شخص غيره؟ .. لأن الله -سبحانه وتعالى- ألقي شكل وجه المسيح -عليه السلام- على أحد تلاميذه، وكان مختلفا في جسده عن جسد المسيح اختلافا واضحا.
قبلة يهوذا:
من الروايات حول خيانة يهوذا الإسخريوطي، أنه وقبل أن يصل الجنود، اقترب من السيد المسيح -عليه السلام- وقام بتقبيله وكأنه يودعه وهو يقول: (سلام لك يا معلم).
وهكذا أصبحت قبلة يهوذا تجسيدا لكل خائن يظهر ولاءه لمن يخونه.
هذه الرواية بخصوص قبلة يهوذا، قد تكون وقعت بالفعل، وقد تكون مجرد نبت خيال، فكما هو معروف -وهذا ليس دفاعا عن يهوذا- أن الخائن قد تنسج عنه روايات كثيرة غير صحيحة، خصوصا إذا كان الشخص الذي خانه نبي من الأنبياء.
لكن هناك سبب قد يبدو منطقيا لتلك الواقعة بعيدا عن مبالغات من يحكون القصص، يتمثل في أن الوقت حينذاك كان ليلا ساد فيه الظلام المعتم، فأراد يهوذا بذلك التصرف أن يكشف للجنود عن هوية المسيح -عليه السلام- بالتحديد خصوصا أنه كان وسط تلاميذه، فأخبرهم أنه سيقبله حتى يستطيعوا تمييزه من بينهم.
هل كان يهوذا خائنا فعلا؟:
لكن دعونا ننقلكم إلي وجهة نظر تاريخية أيضا بدأت في الدفاع عن يهوذا الإسخريوطي، وتنفي عنه تهمة خيانة المسيح -عليه السلام-.
يقوم هذا الرأي على اعتقاد في الديانة المسيحية بأن المسيح جاء (ليموت تكفيرا عن خطايا البشر).
لكن حتى إذا كان هذا الاعتقاد مرفوض تماما في الدين الإسلامي، فإن لوجهة النظر تلك مبرر يراه أصحابه واقعيا، خصوصا أنهم يقولون أنه لا يوجد دليل تاريخي واحد يسبق ما ذكره إنجيل مرقس عن خيانة يهوذا.
حيث يقول هؤلاء ومن بينهم (ديفيد غيبسون) الذي شارك في وثائقي شهير عرضته شبكة (سي ان ان الأمريكية) بعنوان (البحث عن المسيح) بإن إبلاغ يهوذا عن مكان السيد المسيح -عليه السلام- كان بناء على طلب المسيح نفسه، ولم يكن بدافع الغدر أو الخيانة.
ذلك لأنه وبالقبض عليه ومن ثم تعذيبه وصلبه (أو ما يعرف في المسيحية باسم: آلام المسيح) يكون قد مات للتكفير عن خطايا البشر، لذا فإن يهوذا كان مجرد الوسيلة التي نفذت رغبة المسيح.
وبالطبع لا يخفي هنا بطلان هذا الاعتقاد في الدين الإسلامي بطلانا كاملا، إذ جاء مخالفا لنص القرآن الكريم الذي أخبرنا بأن المسيح -عليه السلام- قد تم رفعه وأنجاه اللَّهَ.
بحسب النصوص الإسلامية، سينزل المسيح -عليه السلام- إلى الأرض من جديد في نهاية الزمان ليقتل (المسيح الدجال)، وسيعاصر كذلك خروج (يأجوج ومأجوج).
كما سيلتقي مع (المهدي المنتظر) وهو إمام عادل من نسل (رسول اللّه صلى اللَّه عليه وسلم)، وسيموت بعدها عيسي -عليه السلام-.