لعل تعريف الركود الاقتصادي يعد أحد أكثر المسائل جدلا واختلافا حولها في علم الاقتصاد.
الركود الاقتصادي، عندما يسير كل شيء نحو الهبوط، geralt (pixabay.com). |
لكننا سنحاول هنا أن نضع لكم بعض أشهر التعريفات الاقتصادية للركود، أحد أسوء الأشياء التي قد يمر بها مجتمع ما أو ربما العالم كله.
معني الركود:
الركود (باللغة الإنجليزية: Recession)، في أحد أشهر تعريفاته هو التباطؤ أو الانكماش الهائل في الأنشطة الاقتصادية، ويحدث نتيجة لانخفاض كبير في إنفاق المستهلكين على شراء السلع والخدمات.
تعريف آخر يري الركود الاقتصادي بأنه (فترة طويلة ينخفض فيها الإنتاج وترتفع معدلات البطالة).
فيما يذهب تعريف ثالث للقول بأن الركود هو ربعين متتاليين من النمو الاقتصادي السلبي... وهذا التعريف بالتحديد يعد أحد التعريفات الشائعة للركود الاقتصادي.
يقصد بالربع هنا هو ربع العام، إذ يتم تقسيم السنة إلى أربعة أجزاء متساوية، كل جزء مدته ثلاثة شهور، وذلك لتسهيل المقارنات بينها وبين فترات العام السابق لها أو اللاحق عليها.
وتعرف الموسوعة البريطانية Brittanica الركود الاقتصادي بأنه: (اتجاه تنازلي في دورة الاقتصاد يتسم بانخفاض معدلات الإنتاج والتوظيف، مما يؤدي بدوره إلى انخفاض دخل وإنفاق الأسر).
الركود .. عندما تسود الأوقات الصعبة:
إذن وبناء على كل هذه التعريفات السابقة، فإننا أصبحنا نري الصورة بوضوح، الركود الاقتصادي هو وقت صعب للغاية، فالاقتصاد ينكمش، والشركات والمتاجر تعاني من انخفاض في مبيعاتها وأرباحها، البورصات والأسواق المالية تتراجع، كثير من الناس يفقدون وظائفهم، والوظائف الجديدة غير موجودة تقريبا، تتراجع معدلات بناء العقارات الجديدة، وتتقلص أعداد تصاريح البناء، ونتيجة لكل ذلك تتزايد الأزمات الاجتماعية، بل وقد ترتفع معدلات الجرائم.
عندما يحدث ذلك، فنحن في زمن الركود..
والحقيقة أننا وللأسف الشديد نمر حاليا في عام ٢٠٢٣ بفترة ركود واضحة، وقد افتتحنا العام بتقرير نشره (المنتدى الاقتصادي العالمي) أشار فيه إلي أن آفاق ومستقبل الاقتصاد العالمي قاتمة، وفقًا لتوقعات كبار الاقتصاديين.
وبينما تميل بعض وسائل الإعلام المحلية في بعض الدول، إلى تبشير الناس ووعدهم بتحسن الأوضاع الاقتصادية بسرعة، فإننا ووفقا لكل ما نملكه من مصادر متخصصة ومن الأفضل عالميا، نجد أن من أمانة الطرح أن نقول لكم (لا تنخدعوا ، الركود أصبح حقيقة).
هذا أيضا ما أشارت إليه (رئيسة صندوق النقد الدولي) كريستينا جورجيفا، عندما حذرت من أن الركود سيضرب ثلث دول العالم على الأقل، مضيفة أن عام ٢٠٢٣ سيكون أكثر صعوبة من العام الماضي.
وأضافت جورجيفا في تصريحاتها إن أكبر ثلاث اقتصادات في العالم (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين) تتباطأ جميعها في وقت واحد.
كما توقع البنك الدولي حدوث ركود اقتصاد عالمي خلال سنة ٢٠٢٣، وأن نمو الاقتصاد العالمي لن يزيد عن ١،٧٪ فقط، إنها ثالث أبطأ وتيرة نمو للاقتصاد العالمي منذ عام ١٩٩٣ (لا يفوقها سوى ركود عامي ٢٠٠٩ و ٢٠٢٠).
أيضا كرر جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لشركة جي بي مورغان JPMorgan Chase ، توقعه بأن الركود قادم في عام ٢٠٢٣.
ومع ذلك، فإن (المنتدي الاقتصادي العالمي) يري أن أسوء الأوضاع ستكون في الولايات المتحدة وأوروبا، في حين أن الأوضاع ستكون أفضل قليلا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب آسيا.
لكن هل تعلمون ما هي المشكلة الكبرى؟.
في الحقيقة إن الركود الاقتصادي في حد ذاته مشكلة كبيرة، لكن الأكثر سوء وإيلاما هو أن يستمر الركود إلى مدى زمني طويل.
حينها، نجد أن الركود قد تحكم في الاقتصاد ليس لربعين متتاليين كما جاء في أحد التعريفات، بل لعدة أرباع متتالية، وبالتالي يعيق نمو الاقتصاد تمامًا، ونصبح أمام فترات طويلة تنخفض فيها المؤشرات الاقتصادية مثل الناتج المحلي الإجمالي وأرباح الشركات والتوظيف وما إلى ذلك.
حذر (بنك إنجلترا) من أن المملكة المتحدة تواجه ركودًا لمدة عامين - والذي لن يكون ركودا طويلا فحسب، بل سيكون الأطول على الإطلاق في تاريخ البلاد.
ويعتمد تحول الركود الاقتصادي إلى (ركود اقتصادي طويل المدى) على عدة عوامل، من بينها:
- حجم وقوة القطاع المصرفي في الدولة.
- قدرة السياسة المالية والنقدية على عكس إتجاه الركود.
- حجم الإنتاج الزائد في المجتمع والذي يمكن استخدامه في أغراض مثل التصدير.
أسباب الركود الاقتصادي:
فعليا، لا يوجد سبب واحد يمكن أن نقول أنه هو سبب الركود الاقتصادي، بل ينتج الركود الاقتصادي عن عوامل خارجية أو داخلية، ما يجعل بعض الخبراء الاقتصاديين يذهبون إلى أن أسباب فترات الركود ((ليست واضحة تمامًا))، وهي تختلف في كل مرة عن سابقتها.
فمثلا هذا الركود الاقتصادي الذي يواجهه العالم اليوم جاء نتيجة حدثين كبيرين ضربا اقتصاد العالم بشكل سريع ومتتالي.
نتحدث هنا عن أزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-١٩)، والذي اضطر معظم دول العالم إلى إجراء إما تقليص حجم أنشطتها الاقتصادية، أو تنفيذ إغلاق كامل خلال عام ٢٠٢٠.
أشعلت روسيا حربا على أوكرانيا أصابت بها الاقتصاد العالمي بالركود، خصوصا ما تبعها من العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا، manhhai، (AP Photo/Efrem Lukatsky)، (CC BY 2.0)، via Flickr. |
وبينما ظن العالم كله أن الأوضاع ستسير نحو التحسن التدريجي، وارتفعت الآمال والطموحات، جاء إندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا التي بدأت في فبراير ٢٠٢٢، ليهدم تلك الآمال ويزيد الأمور سوءا وتعقيدا.
لكن لنتحدث بشكل أكثر عمومية، أو لنقل ما هي الأسباب العامة التي قد تؤدي لحدوث الركود، وليس أسباب هذا الركود الذي نعيشه هذه الأيام على وجه الخصوص.
لذا يمكن أن نقول أن أسباب الركود هي:
- الصدمات الاقتصادية: قد تحدث الصدمات الاقتصادية نتيجة لارتفاع كبير ومفاجئ في أسعار النفط (مثلما حدث بالفعل عقب الحرب الروسية على أوكرانيا).
- الذعر المالي: هي حالة يصاب فيها المستثمرين في الشركات، والمودعين في البنوك بذعر يدفعهم لسحب ودائعهم من البنوك أو بيع أسهمهم في الشركات بشكل جماعي وبكميات كبيرة.
- محاولة مواجهة التضخم: قد ينتج الركود الاقتصادي عن محاولة مواجهة التضخم وارتفاع الأسعار، ففي هذه الحالة، تقوم البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة، بهدف جذب أموال الناس، وتخفيض عمليات الشراء، لكن المشكلة هنا أنه قد ينتج عن محاولة مواجهة التضخم، ظهور مشكلة الركود، بالظبط مثلما يحاول شخص أن يصلح شيئا ما، فيقوم بإفساد شيء آخر (حدث هذا فعليا مع رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي معدلات الفائدة أكثر من مرة منذ عام ٢٠٢٢).
- عوامل خارجية عن الاقتصاد نفسه: مثل الحروب أو الكوارث الطبيعية.
- نظرية القمة والقاع: هناك مفكرون اقتصاديون يرون أن الركود يحدث عندما يصل الاقتصاد إلى قمة قوته وتعافيه، وأن الركود نفسه ينتهي عندما تصل الأمور إلى القاع، ويبدأ الاقتصاد في التعافي.
تاريخيا، ونظرًا لأن الولايات المتحدة هي أكبر اقتصاد في العالم، ولديها روابط تجارية ومالية قوية مع العديد من الاقتصادات الأخرى ، فإن معظم فترات الركود عالميًا تتزامن مع فترات الركود في الولايات المتحدة.
اقتصاديا، نحن لا نستطيع معرفة متى سيأتي الركود التالي، لكن ومهما كانت حالة الاقتصاد جيدة في أي مرحلة، فمن المؤكد إلى حد كبير أن ركودًا آخر سيحدث عاجلاً أم آجلاً ولو انتظرنا لسنوات، لكن الشيء الجيد هنا أن الخوف من الركود لا يؤدي إلى حدوثه بالفعل، فقط كل ما في الأمر أننا سنظل خائفين منه حتى ولو لم يأتي لسنوات، ولمثل حالات (الركود) تجهز الدول نفسها بالعديد من الأدوات لمواجهة تلك الأيام النحسات، ومن أهمها (الاحتياطي النقدي)، الذي وكلما زاد، اعتبر ذلك من عوامل قوة الدولة.
آثار الركود الاقتصادي:
وكما تتنوع أسبابه، فإن آثار ونتائج الركود الاقتصادي تتعدد وتختلف هي أيضا.
وكنتيجة طبيعية لهذا الذعر المالي، قد تفلس الكثير من البنوك، أو تمتنع عن الوفاء بالتزاماتها، وتنهار الشركات التي تفقد معظم قيمتها السوقية (حدث ذلك بالفعل قبل ما يعرف باسم الركود العظيم أو الكساد الكبير وهي فترة حالكة من تاريخ الاقتصاد العالمي، عاش خلالها فترة ركود طويلة استمرت منذ عام ١٩٢٩ وحتى مطلع أربعينيات القرن العشرين).
وعلى مستوى الأسر، فإنه وحتى إن لم ينخفض دخل الأسرة، فإن توقعات رب الأسرة بشأن المستقبل تصبح أقل ثقة خلال فترة الركود، ويميل الكثيرون إلى التأخير في إجراء عمليات شراء أو استثمارات كبيرة.
كيف تتعامل مع الركود الاقتصادي:
إذن، فماذا بعد كل هذا؟ .. ألا يوجد وسيلة يستطيع بها الشخص العادي أن يتعامل مع الركود؟.
للإجابة على هذا السؤال، علينا أن نفرق بين الأمور التي يمكن أن نتحكم فيها، وبين تلك التي لا نستطيع معها إلا محاولة تقليل مخاطرها وآثارها السلبية.
فعلي سبيل المثال، من ضمن الأشياء التي يستطيع الشخص العادي التعامل معها:
- العمل المستمر من أجل تحويل نفسه ليصبح (عنصر لا غنى عنه) في المؤسسة أو الشركة التي يعمل بها، وهكذا يضمن لنفسه البقاء في العمل ولو بأجر أقل في فترات الركود، وتتنوع سبل ذلك فعلى سبيل المثال هناك تلقي دورات متخصصة ومهمة في مجال عمله، أو أن يكون قادرا على إنجاز أشياء في العمل تستعصي على غيره من أمثاله، .. إلخ.
- تقليص الميزانية الشهيرة قدر الإمكان، والتوقف عن شراء السلع الغير ضرورية.
- تخصيص أموال للإدخار، وللإستثمار.
في فترات الركود الاقتصادي، من الموصي به أن تحترم نقودك وتقتصد في نفقاتك، دون أن تتراخي في الصدقات أو فريضة الزكاة، stevepb، Pixabay License. |
أما على مستوي الحكومات، قد تلجأ الدول إلى ضخ المزيد من الأموال في الاقتصاد.
إذ يؤدي زيادة المعروض من النقود في الاقتصاد إلى زيادة الإنفاق، شراء السلع والخدمات، وتبدأ عجلة الاقتصاد في الدوران والنمو مجددا، لكن الأمر ليس بهذه السهولة مثل ما يبدو، فهي حين تفعل هذا، قد تصطدم مجددا بخطر التضخم.
أيضا يعتبر من ضمن الإجراءات الجيدة التي قد تتخذها الحكومات في مواجهة الركود:
- خفض أسعار الفائدة ما يدفع الناس لسحب أموالهم من البنوك واستخدامها في شراء السلع والخدمات أو الاستثمار.
- تخفيض الضرائب، وهذا يساعد على ازدهار التجارة، وتشجيع ضخ استثمارات جديدة في الاقتصاد.
- زيادة الإنفاق الحكومي في العديد من المجالات.
فوائد الركود الاقتصادي:
وبرغم كل ما سبق، فهناك وجهات نظر اقتصادية تتحدث عن وجود (فوائد) للركود الاقتصادي.
لكن بالنظر إلى ما تتحدث عنه وجهة النظر تلك، نجد أنها تنحصر في فئة معينة من البشر تلك التي يمكنها الاستفادة من الركود الاقتصادي.
هل تذكرون (الذعر المالي)، ذلك السبب الثاني الذي ذكرناه من أسباب الركود الاقتصادي؟.
هذا الذعر المالي يحدث نتيجة لأن الطبيعة البشرية أن الناس يتبعون المجموعة، فإذا كان هناك إتجاه عام لبيع أسهم شركة، فإن معظم من يملكون الأسهم فيها سيتبعون غيرهم.
تتبقي فئة من البشر لديها خبرة في السوق، ودراية تؤهلهم لمعرفة أن أسهم الشركة ستعود للارتفاع عقب نهاية فترة الركود، وربما يكون الأهم من الخبرة والمعرفة في هذا المقام، تمتع هؤلاء الفئة النادرة بأعصاب فولاذية للبقاء في اللعبة عندما يخرج الجميع.
ففي الأعمال التجارية ، يمكن أن تساعد اليد الثابتة والإعداد الدقيق، في توجيه السفينة خلال العاصفة سليمة، لذا عندما تمر عاصفة الركود، وتعود أسهم الشركة للارتفاع، سيجني هؤلاء الكثير من الأرباح.
أيضا، ظلت فترات الركود، وسنوات التعافي التي تليها فترة مثيرة لاهتمام العديد من الباحثين والدراسات الاقتصادية، والتي أتت بعضها بنتائج تقول أن هناك شركات نجحت في الاستفادة من فترة ما بعد الركود.
فوفقا لمقال أعده رانجاي غولاتي أستاذ إدارة الأعمال في كلية "هارفارد للأعمال، ونيتين نوريا عميد "كلية هارفارد للأعمال" سابقاً، والباحث فرانز فولغيزوجين، ونشرته مجلة هارفارد بزنس ريفيو سنة ٢٠١٠، بعنوان "الخروج من الركود".
الفئات الأضعف في مواجهة الركود، هي تلك المثقلة بالديون، سواء كان شخص، شركة أو حتى دولة.
وفقا لهذا المقال الذي درس فترات الركود التي صاحبت مطلع الثمانينات والتسعينيات ومطلع القرن الحادي والعشرين، فإن ١٧٪ من ٤٧٠٠ شركة عامة درسوها كان أداؤهم سيئًا بشكل خاص: لقد أفلسوا، أو أصبحوا شركات خاصة ، أو تم الاستحواذ عليها، يبدو هذا منطقيا خلال فترة ركود اقتصادي.
لكن المثير للدهشة هو أن ٩٪ من الشركات لم تتعافى فحسب خلال السنوات الثلاث التي أعقبت الركود، بل لقد ازدهرت وتفوقت على المنافسين بنسبة ١٠٪ على الأقل في نمو المبيعات والأرباح.
هذه النتيجة توصلت إليها أيضا دراسة أحدث أجرتها شركة الاستشارات الأمريكية الشهيرة (ماكنزي).
لكننا إذا نظرنا إلى أيا من هذه الفوائد، فسنجد أنها فوائد تشترك في كونها مقتصرة على نسبة قليلة من عموم المساهمين في الاقتصاد، وكذلك في أنها تتحقق عقب نهاية فترة الركود الاقتصادي وليس خلالها.
لذا وبكل تأكيد، يظل الركود الاقتصادي أحد أسوء الأشياء التي قد تصيب اقتصاد ما، أو الاقتصاد العالمي بشكل عام، وسنظل نتمني للجميع أن يخرجوا منها سالمين، وخصوصا أن فترات الركود هذه الأيام أصبحت أطول وأكثر عمقا وإيلاما، مقارنة بما كان يحدث سابقا.