في أعقاب وفاة صاحبة الجلالة الملكة إليزابيث الثانية ظهر أمس الخميس الثامن من سبتمبر ٢٠٢٢ في قلعة بالمورال في اسكتلندا، أصبح عرش المملكة المتحدة خاليا.
وبرغم ما نقلته صحيفة ((الجارديان)) البريطانية عن رجال الحاشية الملكية إن تشارلز، الذي يبلغ من العمر ٧٣ عاما، لم يرغب أبدًا في التفكير في الصعود إلى العرش، لأنه يعني وفاة أمه الحبيبة.
وبدون ما تقوله الجارديان، فالأمر معقد للغاية على صعيد المشاعر الإنسانية، فمن أجل أن ينتقل تشارلز من الوريث ليصبح تشارلز الثالث الملك، كان لابد من أن يفقد والدته.
تشارلز الثالث نفسه، وفي بيانه الذي صدر عنه عقب الإعلان عن وفاة الملكة إليزابيث الثانية، وصف الحدث بأنه (لحظة حزن كبير لي ولكل أفراد عائلتي).
برغم ذلك كله، فمثل جميع الملكيات في العالم على مدار التاريخ، فكلما مات ملك، عاش ملك جديد وصعد بدلا منه إلى العرش.
وهذا ما حدث سريعا جدا في إنجلترا، فالعرش البريطاني لا يجوز أن يكون شاغرا أبدا، صعد تشارلز فيليب آرثر جورج، ابن الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أمير ويلز، ليصبح تشارلز الثالث ملكا جديدا على عرش المملكة المتحدة، وهو يردد تعهد والدته الراحلة بخدمة المملكة المتحدة.
الاسم الملكي:
الخطوة الرسمية الأولى لأي ملك جديد في المملكة المتحدة أن يمنح اسما ملكيا، فوالدته الراحلة كان اسمها (إليزابيث ألكسندرا ماري وندسور)، ولكنها أصبحت إليزابيث الثانية مع توليها العرش.
كذلك كان جده، الملك جورج السادس، كان اسمه الأصلي (ألبرت).
الملك الجديد بالفعل أصبح لديه اسما ملكيا خاصا به إنه (تشارلز الثالث).
الملك تشارلز الثالث ملك المملكة المتحدة في زيارة سابقة له للولايات المتحدة الأمريكية أبرز حلفاء بلاده، Dan Marsh، (CC BY-SA 2.0)، via wikimedia commons. |
إنه أول ملك يسمي (تشارلز) يصعد للعرش البريطاني منذ ٣٣٧ عاما، وبالتحديد منذ الملك (تشارلز الثاني)، الذي كان يلقب بلقب العاهل السعيد The Merry Monarch، والذي كان ملكا على بريطانيا العظمي بين عامي (١٦٦٠ : ١٦٨٥).
التفاؤل والتشاؤم بعهد تشارلز الثالث:
بدا البعض غير مستبشرا بهذا الاسم، خصوصا أن الملكين الأولين اللذان حملا اسم تشارلز، واجهوا وقتًا عصيبًا جدًا خلال سنوات حكمهم.
فتشارلز الثاني على سبيل المثال عاش عدة سنوات في المنفى قبل أن يعود لعرشه، خلال فترة عاصفة في التاريخ البريطاني تسمي (الكومنولث البيوريتاني)، والتي شهدت اضطرابات كبرى ضد الحكم الملكي، وتُعرف سنوات حكمه في التاريخ الإنجليزي بفترة الاستعادة.
التفاؤل والتشاؤم أصلا يعدان من أبرز ما يحيط بالملوك في بداية عهودهم، وبخلاف الاسم، فهناك شيء آخر يراه البعض مثارا للتشاؤم من وصول تشارلز الثالث للحكم.
فتشارلز الثالث والذي أمضي سنوات ضابطا في صفوف الجيش البريطاني وبالتحديد سلاحي الطيران الملكي والبحرية الملكية، عمل كقبطان لسفينة صاحبة الجلالة برونينجتون HMS Bronington، من فئة (كاسحات الألغام) في الفترة بين ٩ فبراير و ١٥ ديسمبر عام ١٩٧٦.
السفينة برونينجتون سرعان ما انحرفت في نهر أفون أثناء مغادرتها بريستول، وكانت وقتها تحت قيادة خليفته، الملازم أ.ب.جوف آر.ن.
ربما لم يكن ذلك حدثا كبيرا، فكل السفن معرضة للانحراف خلال الإبحار، ما حدث لاحقا هو ما أثار التشاؤم.
ففي يناير ١٩٨٩، اشتري صندوق برونينجتون Bronington Trust الخيري المسجل باسم الملك تشارلز الثالث السفينة، في إشارة واضحة لاعتداد تشارلز الثالث بالسفينة التي كان قبطانا لها.
سفينة صاحبة الجلالة برونينجتون HMS Bronington، من فئة (كاسحات الألغام)، صورة قبل غرقها التقطت عام ٢٠١٥، El Pollock، From geograph.org.uk، Share-alike license 2.0، |
لعشر سنوات ظلت السفينة برونينجتون راسية في في قناة مانشستر شيب في ترافورد بارك، كمزار مفتوح للناس، ثم انتقلت إلى بيركينهيد حيث مكان الحفاظ على السفن الحربية القديمة.
في ١٧ مارس ٢٠٠٦، غرقت برونينجتون في مراسيها، ما مثل للبعض سوء طالع للملكية في بريطانيا.
حفل تنصيب تشارلز الثالث:
كانت الخطوة الأولى لتنصيب تشارلز الثالث أن يأتي إلى العاصمة، إلى لندن نفسها، وهو ما حدث فعلا صباح الجمعة ٩ سبتمبر حينما قدم الملك تشارلز الثالث وزوجته كاميلا، ملكة الملكة، من قلعة بالمورال في اسكتلندا حيث توفيت الملكة إليزابيث الثانية إلى لندن.
في يوم السبت ١٠ سبتمبر ٢٠٢٢، نصب تشارلز الثالث رسميا ملكا لبريطانيا في احتفال تاريخي اقيم في قصر سان جيمس.
وأعلنت هيئة الجلوس على العرش، وهي هيئة مكوّنة من كبار السياسيين والقضاة والمسؤولين في المملكة المتحدة، تتويج تشارلز الثالث ملكًا.
ولي عهد المملكة المتحدة:
وُلد تشارلز الثالث في تمام الساعة ٩،١٤ من مساء الرابع عشر من نوفمبر عام ١٩٤٨ في قصر باكنغهام في لندن.
بعد أكثر من شهر بقليل، تم تعميد تشارلز فيليب آرثر جورج من قبل رئيس أساقفة كانتربري في إنجلترا الذي يعد أكبر شخص في الكنيسة الانجليزية.
وسرعان ما أصبح الطفل تشارلز وريثًا لعرش المملكة المتحدة منذ ما يزيد عن ٧٠ عاما، وبالتحديد منذ تولي الملكة إليزابيث الثانية في فبراير عام ١٩٥٢، يومها كان تشارلز لا يزال في السنة الثالثة من عمره.
بولاية العهد ضمن تشارلز لنفسه لقب (أمير ويلز)، إنه اللقب الذي يمنح دائما لولي العهد البريطاني-.
مدة السبعين عاما التي جلستها أمه الراحلة إليزابيث الثانية على العرش، لم تجعلها أطول ملوك الإنجليز عهدا فحسب، بل جعلت من تشارلز الثالث أيضا صاحب أطول مدة لشخص يجلس في منصب ولاية العهد في تاريخ أسرة وندسور الحاكمة.
سبعة عقود عاشتها إليزابيث الثانية كملكة، كانت مدة طويلة بما يكفي لضرب رقم قياسي آخر، فلقد أصبح تشارلز الثالث، أكبر شخص سناً تولى العرش البريطاني ذات يوم، بعدما كان الملك ويليام الرابع الذي تولي حكم المملكة المتحدة عام ١٨٣٠، هو أكبر الملوك الإنجليز يوم جلس على العرش وهو في الرابعة والستين من عمره.
اليوم يصعد تشارلز الثالث ليقوم بالدور الذي ولد له، ليصبح ملك المملكة المتحدة، في فصل جديد من حياته الطويلة، تقول طبائع الأمور أنه أبدا لن يكون بطول الفصل السابق الذي ظل فيه وليا للعهد لسبعين عاما.
تشارلز الثالث.. من هو؟ .. وما حدود ملكه:
الصاعد للعرش البريطاني في عمر الثالثة والسبعين، هو أيضا جد لخمسة أحفاد.
وبخلاف كونه ملكا يملك ولكنه لا يحكم، إذ ينتخب الشعب البريطاني حكومته التي بيدها تصريف الحكم في معظم المسائل تقريبا، إلا أن الكثير من الإجراءات لا تتم إلا عن طريق الملك، وأبرزها تكليف رئيس الوزراء الذي يرشحه برلمان المملكة المتحدة، وكذلك التوقيع على القوانين الجديدة.
المملكة المتحدة ذاتها اليوم تتكون من أربعة دول هي إنجلترا، اسكتلندا، ويلز، إيرلندا الشمالية.
بخلاف هذه الدول، هناك حكومات (١٥) دولة مستقلة، لكنها تعتبر ملك المملكة المتحدة، رأس الدولة فيها بشكل شرفي، وهذه الدول هي: (أستراليا، كندا، نيوزيلندا، جامايكا، باربادوس، باهاماس، غرينادا، بابوا غينيا الجديدة، جزر سليمان، توفالو، سانت لوسيا، سانت فينسنت والغرينادين، بليز، أنتيغوا وباربودا، سانت كيتس ونيفيس).
كاميلا بجوار زوجها تشارلز الثالث في زيارة رسمية لدولة جامايكا، Mattnad، حيث يعد ملك المملكة المتحدة رئيسا رمزيا للدولة، (CC BY-SA 3.0)، via wikimedia commons. |
زوجته هي كاميلا، ستحصل كاميلا التي كانت في السابق دوقة كورنوال، ستحصل على لقب (الملكة قرينة الملك تشارلز الثالث). أو Queen Consort باللغة الإنجليزية.
أما أبنه الأكبر من زوجته الأولى الراحلة (الأميرة ديانا)، الأمير وليام، فقد كان من أول قرارات تشارلز الثالث كملك، أن نصبه وليا لعهد المملكة المتحدة، أميرا لويلز، وكأن الأميرة ديانا ترفض أن تغادر ذكراها العائلة المالكة في بريطانيا.
الملك تشارلز الثالث لديه أيضا منتقدوه، الذين يرونه غير مؤهل، ضعيف، ذو تصرفات عبثية، ولم يجهز ليكون ملكا، كما يتحدثون عن فترة شبابه التي قيل أنه كان خلالها شابًا محرجًا يتصرف بقلة ثقة في النفس.
تلك الانتقادات تقال في حق الملك، برغم أنه كان عمليا أول وريث للعرش البريطاني لم يتلقى تعليمه في القصور كسابقيه، بل ذهب لمدرسة جوردونستون الداخلية في إلغين شرق اسكتلندا، وواصل تعليمه حتى حصل على شهادة جامعية في التاريخ من جامعة كامبريدج العريقة، ليصبح أول ملك بريطاني يحمل شهادة جامعية.
لنضع فوق ذلك أن تشارلز الثالث رجل له خبرة دويلة طويلة تمتد لأكثر من نصف قرن من الزمن.
لكن تشارلز الثالث في الوقت نفسه كان أول من نشأ في وهج وسائل الإعلام المتزايد باستمرار حيث تقلص احترام العائلة المالكة.
على أي حال، ومهما كان الانتقاد أو التأييد، أصبح تشارلز الثالث ملكا، ومن الآن فصاعدا سيغني البريطانيين في نشيدهم الوطني: "ليحفظ الله الملك"، لأول مرة منذ عام ١٩٥٢، بعد سبعة عقود غنوا فيها "ليحفظ الله الملكة".
زوج الأميرة ديانا:
من أسباب شهرة الملك تشارلز الثالث، التي ميزته عن أي ولي عهد للمملكة المتحدة، كان زواجه من الأميرة ديانا أو (أميرة القلوب) كما كانت تسمي.
زواج تم في ٢٩ يوليو ١٩٨١ في العاصمة البريطانية لندن، بلغ مبلغا من الفخامة والرقي أن وصف بأنه ((زفاف القرن العشرين)).
انتهي زواج تشارلز وديانا بالطلاق، أما ديانا ذاتها فقد انتهت حياتها داخل سيارة مرسيدس محطمة في نفق في باريس ذات ليلة.
إنشاء الجمعيات الخيرية:
بالإضافة إلى قائمة طويلة من المهام الرسمية والاحتفالية، داخل وخارج المملكة المتحدة، فمن المعروف عن الملك الجديد (تشارلز الثالث) أنه كان له دور فعال في إنشاء أكثر من ٢٠ جمعية خيرية على مدار أكثر من ٤٠ عامًا.
من أهم تلك الجمعيات، جمعيتين مرتبطتين بالأمير السابق الملك الحالي، وهما صندوق الأمير The Prince's Trust ومؤسسة الأمير The Prince's Foundation.
الملك تشارلز الثالث أيضا مهتم بشدة بالقضايا المتعلقة بالبيئة والتغير المناخي والاحتباس الحراري، وقضايا المجتمعات الريفية والفنون والرعاية الصحية والتعليم.
من المعروف عن تشارلز الثالث أيضا أنه بستاني يستمتع بالاعتناء بحديقته العضوية في قصره الريفي، والتي يحرص على أن لا يدخل فيها أي مركبات أو سماد صناعي.
تحديات كبيرة:
رحلت إليزابيث الثانية إذن، لكنها تركت لتشارلز الثالث دورا شاقًا للقيام به، فلقد مرت العائلة بالكثير من التحديات الخطيرة خلال السنوات الأخيرة.
فحفيدين الملكة الراحلة وابنا الملك الحالي، الأميران ويليام وهاري دخلا في صراع مكتوم وإن برزت الكثير من علاماته على السطح منذ سنوات، خصوصا مع زواج هاري من الممثلة الأمريكية المعتزلة "ميغان مركل".
الملك تشارلز الثالث، ملك المملكة المتحدة، ورث تركة مشاكل عائلية ثقيلة، Mark Jones (CC BY 2.0)، via wikimedia commons. |
أيضا واجهت العائلة مشاكل مع مذكرات اللورد لويس مونتباتن، إنه ابن عم الملكة وخال زوجها، والأب الروحي لأبنها الملك الحالي تشارلز الثالث.
فمذكرات اللورد مونتباتن وهو أيضا آخر حاكم بريطاني على الهند قبل إنسحاب بريطانيا عنها، والذي قُتل في انفجار قنبلة زرعها الجيش الجمهوري الإيرلندي في قاربه في أيرلندا الشمالية في آب / أغسطس ١٩٧٩، احتوت على أسرار دقيقة تخص العائلة.
خاضت العائلة صراعا لمنع نشر المذكرات خصوصا عندما طال الحديث ليمس سمعة زوجة اللورد لويس مونتباتن وعلاقتها برجل هندي، والتفضيلات الجنسية للورد نفسه.
لم تتوقف سلسلة المشاكل التي تطارد العائلة هنا، بل طالت ابن الملكة الراحلة وشقيق الملك الحالي، نقصد هنا الأمير أندرو دوق يورك، الذي اتهمته سيدة أمريكية تدعي (فيرجينيا جوفري) باغتصابها وهي لا تزال مراهقة، بمعرفة ومساعدة المليونير الأمريكي الراحل (جيفري إبستين).
سيخوض تشارلز الثالث تلك التحديات على عرش سلالة يعود حكمها لبريطانيا إلى ألف عام، وهو يدرك جيدا أن حتى زوجته الملكة قرينة كاميلا، لا يزال الرأي العام منقسما حولها، بين مؤيد لها، وآخرين تمنوا لو كانت الأميرة ديانا هي التي بجواره في يوم التنصيب.
الملك تشارلز الثالث في المسرحيات والافلام:
من المفارقات أن الملك تشارلز الثالث أصبح ملكا في الافلام والمسرحيات قبل أن يصل إلى العرش على أرض الواقع.
ففي عام ٢٠١٧، عرض الفيلم التلفزيوني الملك تشارلز الثالث King Charles III وهو فيلم مقتبس عن مسرحية للكاتب المسرحي البريطاني (مايك بارتليت) تحمل نفس الاسم، كما أخرج الفيلم التلفزيوني المخرج (روبرت غولد) مخرج المسرحية أيضا، وقام ببطولة الفيلم معظم الممثلين الأصليين للمسرحية بما في ذلك تيم بيجوت سميث ، الذي توفي قبل بث الفيلم.
حقق الفيلم ذو التسعين دقيقة نجاحا كبيرا من حيث المشاهدات عندما عرض لأول مرة على شاشة "بي بي سي" في العاشر من مايو ٢٠١٧، كما عرض في الولايات المتحدة الأمريكية، بجانب إصدار نسخ DVD منه.
بوستر فيلم تشارلز الثالث، نسخة أقل جودة للاستخدام العادل، Fair use via wikimedia commons. |
تماما كالمسرحية التي فازت من قبل بجائزة أفضل مسرحية جديدة من دائرة النقاد البريطانية عام ٢٠١٤ وهو أول عام عرضت فيه على خشبة مسرح ألميدا بلندن، وفي العام التالي فازت بنفس الجائزة من جوائز أوليفر البريطانية لأفضل المسرحيات.
الفيلم من نوعية الأفلام التي تدور في المستقبل، إذ تدور أحداثه عن عهد تشارلز الثالث في أعقاب وفاة أمه الملكة إليزابيث الثانية، في حين أن تشارلز كان في ٢٠١٧ لا يزال أمير ويلز، ووليا للعهد، في قالب من الدراما السياسية المحيطة به نتيجة اعتلائه العرش.
ويبدأ الفيلم بمشاكل بين الملك الجديد تشارلز الثالث ورئيس الوزراء بسبب مشروع قانون يري الملك أنه يقيد حرية الصحافة والتعبير عن الرأي، ومن ثم تتطور الأحداث سريعا.
في النهاية، أصبح الأمر واقعا، أشرقت الشمس على المملكة المتحدة بدون إليزابيث الثانية، وسيكون على شعبها انتظار إنتهاء فترة الحداد الوطني، حتى يستطيعون الاستبشار أو التشاؤم بعهد تشارلز الثالث.