((وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) {الآيتين الكريمتين من سورة آل عمران}.
هي الصديقة، الطاهرة المطهرة، مريم بنت عمران -عليها السلام، ام المسيح عيسي عبد اللَّهَ ورسوله، Yethrosh، (CC BY-SA 4.0)، via wikimedia commons. |
إنها السيدة مريم، مريم العذراء، مريم ابنة عمران، مريم أم المسيح عيسي -عليهما السلام-، المطهرة، الصديقة، المصطفاة على نساء العالمين، من يخفق بحبها قلوب المسيحيين والمسلمين معا.
بل إن الحقيقة أن أي قارئ للقرآن الكريم وللإنجيل، سيجد أن مكانة السيدة مريم -عليها السلام- في القرآن الكريم قد بلغت شرفا وتعظيما وتبجيلا لا يجده حتى في الإنجيل نفسه، بل إن القرآن الكريم قد دافع عن السيدة مريم بنت عمران، ورد عنها بعض التهم التي ساقها المرجفون.
هذا ويشار للسيدة مريم باللغة الإنجليزية بالعديد من الألقاب والأسماء مثل مريم Mary، والقديسة مريم St. Mary، والعذراء مريم the Virgin Mary، وهي من أهم الشخصيات في جميع كنائس العالم، وأحد أكثر المواضيع والشخصيات التي تناولها الفن والموسيقى والآداب الغربية عموما، وواحدة من أكثر الشخصيات تواجدا في دير العبادة والكنائس المسيحية حول العالم، إما برسم على الحوائط والأسقف أو في صورة تماثيل منحوتة.
لكننا نقتبس من الكتاب الموسوعي الرائع (قصة الحضارة) للفيلسوف والمؤرخ الأمريكي ويل ديورانت وصفه: "مريم أقرب الأشخاص إلى القلوب في التاريخ كله".
من هي مريم ابنة عمران؟:
بلغت السيدة مريم ابنة عمران درجة كبيرة من المكانة والحب والاحترام في نفوس المسلمين الذين يقرأون ذكرها في كتابهم المجيد ((٣٤)) مرة.
فهي العابدة الزاهدة المنقطعة لعبادة رب العباد وحده لا شريك له، وهي السيدة الوحيدة التي شرفها اللَّهَ عز وجل بجعل سورة من سور القرآن الكريم تحمل اسمها، وهو أمر لم يتكرر مع أي سيدة أخرى، ولو كانت من زوجات رسول اللَّهَ صلى اللَّهَ عليه وسلم.
وبتأمل آيات القرآن الكريم، نكتشف أن السيدة مريم، من ذرية الأنبياء والمرسلين، يقول تعالى: ((۞ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)) {الآيات ٣٢ : ٣٤ ، سورة آل عمران}.
ويقص علينا القرآن الكريم أن امها (امرأت عمران)، وفي اثناء حملها بالسيدة مريم، وهبت ما في بطنها لعبادة اللَّهَ، وكانت تلك من عادات الصالحين في تلك الأيام والمجتمعات.
يقول تعالى: ((فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) {الآية ٣٦ : سورة آل عمران}.
الحرم القدسي، البلدة القديمة للقدس، في هذه البقاع الطيبة المباركة ولدت السيدة مريم -عليها السلام، Godot13، (CC BY-SA 4.0)، via wikimedia commons. |
وتعلمنا هذه الآية الكريمة أن من أهم ما يفعله الوالدين مع كل مولود جديد أن يدعوان له، ويعيذانه بالله وذريته من الشيطان الرجيم، اقتداءا بما فعلته امرأت عمران.
وبرغم الارتباك الذي أصاب السيدة (امرأت عمران) لبعض الوقت لأن الناس لم يكن من عادتهم إرسال بناتهم للخدمة في بيت المقدس، إلا أنها قد تجاوزته سريعا ووفت بالنذر.
في كفالة اللَّهَ :
يقول عز وجل: ((ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)) {الآية ٤٤: سورة آل عمران}.
تكشف هذه الآية الكريمة أن العديد من قوم السيدة مريم -عليها السلام- كانوا مسرورين للغاية بولادتها، وذلك لمعرفتهم ببيتها وأهله الصالحين الأتقياء، فأراد عدد منهم أن يكفلها عنده.
ويتطور الأمر إلى حد الخلاف، فهذا يريد كفالتها وذلك يريدها، حتى استقر رأي القوم أن يقوموا بعمل قرعة بأقلامهم، يفوز بكفالة السيدة مريم من يفوز بها، وهنا تأتي أقدار اللَّهَ، فتجعل الكفالة عند نبيه زكريا.
وينتقل بنا القرآن الكريم إلى مرحلة جديدة من حياة السيدة مريم -عليها السلام-، لكنه يقوم أولا بالإيضاح بأن اللَّهَ -عز وجل- قد تقبل السيدة مريم قبولا حسنا، وتقبل النذر الذي نذرته أمها.
يقول تعالى: ((فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)). {الاية ٣٧ : سورة آل عمران}.
الآية توضح أيضا أن السيدة مريم -عليها السلام- كان يأتيها رزقها من عند اللَّهَ، دون سعي منها أو طلب للرزق، وهو أمر فريد اختصها به اللَّهَ -عز وجل-، فلم تكن كغيرها من البشر تسعي وتجتهد طلبا للطعام والشراب بل كان يأتيها رزقها وهي في محرابها.
ونود التأكيد هنا أن هذا أمر من الأمور المعجزة التي خص بها الخلاق العليم، عبدته السيدة مريم -عليها السلام-، فلا ينبغي أن يجلس أحدنا ويقول أعبد اللَّهَ، وسيرزقني اللَّهَ، بل إن باقي البشر مأمورين بالسعي والأخذ بالأسباب المادية لكسب الرزق.
الحمل في المسيح:
يقول عز وجل: ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ (60)) {الآيتين الكريمتين ٥٩ : ٦٠، سورة آل عمران}.
هاتين الآيتين الكريمتين توضحان للمسلمين كيفية حمل وميلاد المسيح، أنه كما خلق اللَّهِ -عز وجل- آدم -عليه السلام- من تراب ثم أمره فصار بشرا، فهذا مثل ميلاد المسيح عيسي -عليه السلام-، وأن هذا حق، فلا شك فيه ولا نقاش، فالله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، ومن تمام إيمان المسلم أن يؤمن بهذا.
ويقص علينا القرآن الكريم أيضا كيف جاء ملاك الوحي (جبريل) إلى السيدة مريم، ليخبرها بأن اللَّهَ -عز وجل- قد أرسله ليهبها غلاما ذكيا، وكيف طمأنها وأنه سيكون آية للناس وليس شيئا تختبأ منه أو به، وخاتما حديثه بأنه أمر قد قضاه اللَّهَ، ولا راد لقضاءه.
وعقب نهاية الحوار بين السيدة مريم -عليها السلام-وبين جبريل -عليه السلام-، نري وصفا لميلاد السيد المسيح عيسي -عليه السلام- وآلام الوضع، وكيف رزق اللَّهَ -عز وجل-، السيدة مريم -عليها السلام- حين وضعت برطب تأكلها.
((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21) ۞ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26)) {الآيات من ١٦ : ٢٦، من سورة مريم}.
هذه الآيات الكريمات جاء في تفسيرها أيضا أن فيها بيان بأهمية العمل، فما كان صعبا على اللَّهَ -عز وجل- أبدا أن يرزق السيدة مريم -عليها السلام- بالرطب لتأكله دون أن يأمرها بهز الشجرة أو بذل أي جهد.
وقد اتضح طبيا فيما بعد أن الرطب هو أفضل طعام تأكله المرأة قبل الولادة وبعدها، إذ يحتوي على عناصر غذائية تسهل من عملية الولادة، كما يعمل الرطب على زيادة طاقة الجسم، الطاقة التي تحتاجها أي سيدة قبل أو بعد الولادة، بخلاف عمله على توازن نسب الأملاح في الجسم.
ولادة المسيح:
مدخل كنيسة المهد في بيت لحم، فلسطين المحتلة، حيث يعتقد أن السيدة مريم -عليها السلام-وضعت ابنها المسيح عيسي في هذه المنطقة، Ray in Manila، (CC BY 2.0)، via wikimedia commons. |
ورد في الحديث الثابت الصحيح عن رسول اللَّهَ صلى اللَّهَ عليه وسلم أنه قال: ((ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم وابنها)).
فكان ميلاد المسيح عيسي -عليه السلام- كمولد أمه، معصوما من مس الشيطان المكتوب على كل ولد آدم حين تضعه أمه.
وقد قال المفسرون في ذلك، أنه جاء إجابة لدعاء (امرأت عمران) المذكور في القرآن الكريم أن يعيذ اللَّهَ عز وجل، ابنتها وذريتها من الشيطان الرجيم.
مكانيا، حدث مولد السيد المسيح عيسي -عليه السلام- في بيت لحم حيث يعتقد أن السيدة مريم -عليها السلام-وضعته في المكان الحالي لكنيسة المهد.
لكن هذا الميلاد كان ضاغطا نفسيا وبشدة على السيدة مريم العذراء، إذ كان يتوجب عليها أن تعود إلى قومها، لكنها ستعود هذه المرة ومعها طفل، والناس يعلمون أنها غير متزوجة، مما سيجعلهم يتحدثون عنها بالسوء.
والحق، أن هذا الأمر ليس بالهين على أي امرأة، فما بالنا بالسيدة مريم العذراء، تلك التي أحصنت فرجها، تلك التي ما كانت إلا طائعة لربها عابدة له، فلا شك أن هذا الموقف قد مثل عليها ضغطا كبيرا، ولكن اللَّهَ -عز وجل- لا يترك أبدا عباده الصالحين.
المسيح يتكلم في المهد:
يقص علينا القرآن الكريم ذلك الموقف الذي وصلت فيه السيدة مريم إلى قومها ومعها ابنها الصغير المولود الجديد.
ففي محكم التنزيل، يقول تعالى ذكره: ((فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)) {الآيات من ٢٧ : ٣٤، سورة مريم}.
أول صفحتين من سورة مريم من القرآن الكريم. |
والمتأمل للآيات الكريمة يجد أن قوم السيدة مريم -عليها السلام-، سارعوا باتهامها قبل حتى أن يسألوها عن من تحمله؟.
قوم كهؤلاء، لم يشفع عندهم سابق معرفتهم بالسيدة مريم -عليها السلام-، ولا انقطاعها للعبادة.
ثم نجدهم يحدثونها عن أهلها وأصلها الطيب مستنكفين فأبوها لم يكن رجلا يفعل السيئات، وأمها لم تكن بغية، وهي أخت هارون.
وللإيضاح هنا، فإن هارون في هذه الآية الكريمة ليس كما يظن البعض أنه هارون أخو نبي اللَّهَ موسي -عليه السلام-، فالفاصل الزمني بينهما يصل إلى ست قرون.
وقد وردت بعض التفسيرات عن المقصود بهارون في الآية الكريمة، فقيل أن السيدة مريم -عليها السلام- كانت تنتسب إلى نسل هارون أخو نبي اللَّهَ موسي -عليه السلام-، ومن التفسيرات من قالت أن هارون هذا كان من بني إسرائيل وكان معروف عنه الصلاح والتقوى، فكان يشار للصالحين في هذا الزمن أنهم (إخوة هارون) بمعني أنهم مثله في صلاحهم وإخلاص عبادتهم لله.
ونعود لمواصلة ما حدث في ذلك الموقف، فنجد أن السيدة العذراء مريم -عليها السلام-، قد أشارت إلى ابنها، قاصدة أن بإمكان قومها أن يوجهوا اسئلتهم واستنكارهم إليه هو نفسه.
ولم يكد قومها يستغربون عن كيفية الحديث إلى طفل لا يزال في مهده، إلا وجاءتهم إجابته في معجزة لا يستطيع أحد منهم إنكارها، فيجيبهم الطفل بأنه عبد اللَّهَ.
وتأتي تبرئة أمه على لسانه، وبشرى بنبوته معا في آن واحد، فيقول أن اللَّهَ عز وجل قد أتاه الكتاب وجعله نبيا (وهذا أمر مقضي به في إرادة اللَّهَ .. فتحدث به لسان نبيه عيسي -عليه السلام- بصيغة الماضي رغم أنه لم يكن قد حدث فعلا حينها).
الآية ٧٥ من سورة المائدة. |
ومعروف أن جميع أنبياء اللَّهَ هم أبناء شرعيين، لا يوجد أي منهم قد أتي سفاحا أو من حرام، فكانت تلك تبرئة أمه الطاهرة مريم -عليها السلام-، بخلاف تبرئتها الأولى المتمثلة في حديثه وهو طفل لا يزال في المهد.
ويكمل الطفل إجابة السؤال بأنه مبارك بأمر اللَّهَ أينما رحل وارتحل، وقد أوصاه ربه بالصلاة والزكاة وأن يكون بارا بوالدته السيدة مريم -عليها السلام-.
رحلة العائلة إلى مصر:
كان مما شرف اللَّهَ -عز وجل- به أرض مصر، أن جاء إليها المسيح عيسي وأمه السيدة مريم -عليهما السلام-.
في الحديث الصحيح، كان رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "سَيِّدَاتُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَآسِيَةُ".
وقد عاشت السيدة مريم وابنها المسيح عيسي -عليهما السلام- في مصر لسنوات.
ستعود السيدة مريم مع ابنها نبي اللهُ عيسي -عليه السلام-إلى القدس، حيث ستموت وتدفن هناك، وسيبدأ هو بعثته وتبليغ رسالته لبني إسرائيل.
عن السيدة مريم في المسيحية:
من المهم أن نذكر أن مكانة السيدة مريم -عليها السلام- تختلف باختلاف الطائفة المسيحية نفسها، بل واحيانا تختلف مكانتها داخل الطائفة الواحدة من زمان إلى آخر.
لكننا نجد أن فترة القرون الوسطى في أوروبا بالتحديد واحدة من أخصب وأثرى مراحل النظرة المسيحية للسيدة العذراء مريم ابنة عمران، والتي تصاعدت فيها النظرة للسيدة مريم باعتبارها محققة الأماني والمستجيبة للدعوات، ولما لا فهي الأم الحنون.
عاش نبي اللّه عيسي -عليه السلام- مدة من حياته وهو صغير في مصر مع والدته الصديقة السيدة مريم -عليها السلام-، Ricardo Liberato، (CC BY-SA 2.0) , via wikimedia commons. |
كما اعتقد الناس في المسيحية أن يسوع الذي يعبدونه، لا يرد لأمه (مريم) أي شفاعة، وبالتالي فقد توجهوا لها هي بالدعاء لتتوسط لهم عند ولدها الإله وفقا لمعتقداتهم.
ومع ذلك، فإن التاريخ يحدد (سيريل) كبير أساقفة الإسكندرية، أو (البابا كيرلس الأول) بمسمي الكنيسة القبطية كأول من خطب عن السيدة مريم -عليها السلام- بعبارات كان يستخدمها اليونانيين القدامي لوصف واحدة من آلهتهم، وكان ذلك في القرن الخامس الميلادي.
وقد وافق مجلس يسمي (مجلس أفسس) الذي لم يعقد إلا بعد أكثر من أربعة قرون على ميلاد المسيح عيسي -عليه السلام-، على تسمية السيدة مريم بلقب "أم الإله"، وسرعان ما تسللت منذ ذلك التاريخ إلى النظرة المسيحية للسيدة العذراء مريم، صفات من صفات كل إنثي عبدها الناس من قبل مثل إيزيس وعشتروت، وسيبيل، وأرتميس، حتى أن عيد صعود السيدة مريم للسماء وفقا لمعتقدهم في ١٣ أغسطس يتزامن مع عيد لإيزيس المعبودة في مصر القديمة.
وقد جاء القرآن الكريم ونبي الإسلام صلى اللَّهَ عليه وسلم، ليوضح الحقيقة ويكشف الزيف، ويأتيه الوحي الإلهي بوضع الأمر في نصابه، وإعلام الناس أن السيدة مريم-عليها السلام- هي مؤمنة موحدة لربها، وأن أبنها عبد لله ورسوله.
يقول عز وجل: ((وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ)) {سورة المائدة : ١١٦}.