أعوذ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .. بسم اللّه الرحمن الرحيم: ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا)) {الآية ٤١ : سورة مريم}.
أبو الأنبياء، خليل اللّه، النبي إبراهيم -عليه السلام-، Abdullah bin Ramazan، (CC BY-SA 4.0)، via wikimedia commons. |
بهذه الآية الكريمة، وغيرها الكثير من المواضع التي ذكر فيها نبي اللّه إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم (ذكر النبي إبراهيم-عليه السلام- ٦٩ مرة في ٢٥ سورة من سور القرآن الكريم)، يتضح المكانة العليا للنبي إبراهيم في الدين الإسلامي، لنفس الشخصية أيضا مكانتها العليا في اليهودية والمسيحية.
النبي إبراهيم في القرآن الكريم:
يحتوى القرآن الكريم على سورة كاملة تسمي (سورة إبراهيم)، وهي سورة مكية، عدد آياتها ٥٢ آية.
وبخلاف تخصيص سورة كاملة باسم نبي اللّه إبراهيم، فقد مدحته الكثير من الآيات في سور أخرى، يقول تعالى:
- {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: ١٢٤].
- {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل : ١٢٠].
- {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم : ٣٧].
هذا ويتعدد ذكر نبي اللّه إبراهيم -عليه السلام- في العديد من المواضع في القرآن الكريم، مما لا يتسع المجال لذكرها جميعها.
أبو الأنبياء:
جاء بعث نبي اللّه إبراهيم بمثابة الثورة المضادة لعبادة الأصنام، والنقطة الأولى التي سينطلق منها أجيالا من الأنبياء من بعده، أنبياء خرجوا من ذريته وصلبه عليه السلام، ودرة التاج فيهم، هو خاتم الانبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم.
فمن بعد بعثة النبي إبراهيم عليه السلام، لم يبعث اللّه أحد أو آتاه النبوة إلا وكان من نسل نبي اللّه إبراهيم، تكريما وتشريفا له.
فرسالة التوحيد، وكلمة أن (لا إله إلا اللّه) حملتها ذرية نبي اللّه إبراهيم جيلا بعد جيل، وعن ذلك يقول تعالى في كتابه الحكيم: ((وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) {الزخرف: الآية ٢٨}.
بدأ ذلك بإبنيه (إسماعيل) عليه السلام، وهو الملقب بأبو العرب والذي ينتسب إليه العرب، ويصل نسب الرسول صلى اللّه عليه وسلم إليه، ووالدته هي السيدة (هاجر) وهي من أصول مصرية، لذا فالمصريين لا يخطئون حينما يقولون أنهم أخوال العرب، وأن لهم فيهم النصف.
وقد روى الطبراني والحاكم عن كعب بن مالك مرفوعا، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: "إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرا، فإن لهم ذمة ورحما" صححه الألباني... قاصدا السيدة هاجر زوجة نبي اللّه إبراهيم -عليه السلام-.
أما الإبن الثاني للنبي إبراهيم هو النبي (يعقوب)، وهو والد النبي يعقوب الملقب بإسرائيل وهو أبو اليهود، وهو ابن السيدة (سارة) زوجة نبي اللّه إبراهيم الأولى، والتي انجبت له يعقوب بعد ميلاد إسماعيل -عليهما السلام-.
وهذه النقطة بالتحديد هي التي تدفع اليهود دوما للقول بأنهم والعرب (أبناء عم).
وبغض النظر عن كونهم (لم يراعوا العمومة فيمن هلك) كما قال الشاعر المصري الراحل "أمل دنقل" في قصيدته الشهيرة (لا تصالح)، بغض النظر عن هذا وهو لا يغض، فإننا ننصح بقراءة كتاب (اليهود أنثروبولوجيا) للمفكر المصري الراحل جمال حمدان.
يوضح حمدان بالأدلة العلمية أن اليهود في عالمنا اليوم ليسوا من أبناء نبي اللّه يعقوب، ولم يكونوا من نسل بني إسرائيل الذين اتبعوا موسي، بل هم شعوب غريبة تماما عن بلادنا ومعظمهم من أبناء مملكة الخزر التترية التي اعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي، ما ينسف فكرة أنهم أبناء عمومة العرب، فاليهود الأصليين من بني يعقوب تحولوا للإسلام أو للمسيحية.
ومن أنبياء اللّه الذين جاءوا من ذرية النبي إبراهيم -عليه السلام-، (إسحاق ، داود، سليمان، أيوب، يوسف، هارون، زكريا، يحيي، إلياس، إسماعيل، اليسع، يونس، لوط، موسي، عيسي، محمد) عليهم جميعا صلوات اللّه وسلامه.
أما أولى الأنبياء بإبراهيم عليه السلام، وأكثرهم صلة به وتشابه معه، فهو رسول الإسلام محمد صلى اللّه عليه وسلم، وذلك تصديقا لقول الحق سبحانه وتعالى: (( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)) {٦٨ : آل عمران}.
ونتيجة لكون جميع الأنبياء من بعد نبي اللّه إبراهيم جاءوا من ذريته، فقد آمن بنبوته جميع أتباع الديانات الإلهية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام)، ما جعل إسمه اسما عالميا، يسمي به الناس أبنائهم في مختلف أنحاء العالم.
هذا ويختلف نطق الاسم من دولة إلى أخرى، ومن ثقافة ومجتمع إلى آخر، فهو إبراهيم وأبراهام وأفراهام وأبرام وافرام.
زمان ومكان بعثة النبي إبراهيم:
وفي حين لا يوجد تحديد زمني (مبني على أساس ديني) للفترة التي ظهر وعاش فيها النبي إبراهيم عليه السلام، فبحسب "الموسوعة البريطانية" كان ذلك في بداية الألف الثانية قبل الميلاد.
مكانيا، فقد جاءت بعثته عليه السلام، في مملكة بابل (العراق حاليا).
خليل اللّه:
ومما يتشرف به المقام الرفيع للنبي إبراهيم عليه السلام، أنه من أولو العزم من الرسل، وهم خمسة رسل فقط لا غير هم (نوح و إبراهيم و موسي و عيسي و محمد) عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ولا يكون الرسول من أولى العزم إلا بعد تعرضه للكثير من المتاعب والمشاق في سبيل تبيلغ دعوته ورسالته، وهو الأمر الذي ينطبق بشدة على النبي إبراهيم -عليه السلام-، والذي كانت حياته مليئة بالمحن التي يمكن أن نتعلم منها جميعًا.
وفوق هذا المقام، مقام آخر كونه (خليل اللّه)، فالله سبحانه وتعالى هو من اتخذه له خليلا.. والخليل في اللغة تعني (الصديق)، فلنا أن نحاول تخيل هذه المكانة العظيمة والتشريف الذي حباه به اللّه -عز وجل-.
الدعوة إلى التوحيد:
جاء إبراهيم -عليه السلام- بدعوة التوحيد الخالصة، والتي واصلها الأنبياء من ذريته من بعده، فما دعا إليه هو ذاته ما يؤمن به المسلمين اليوم.
نجد ذلك واضحا صريحا في القرآن الكريم، فيما قاله رب العزة سبحانه:
- ((مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ)) {الحج : الآية ٧٨}.
- ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)) {النساء : ١٢٥}.
كان بعث النبي إبراهيم إلى قوم يعبدون الأصنام، في عصر تفشت فيه عبادة الأصنام والكواكب والنجوم والشمس والقمر من دون اللّه، فيهم وفي غيرهم من الأمم والشعوب.
وقد اتبع النبي إبراهيم في دعوته طريقة إعمال العقل، بجعل المشركين يكتشفون بأنفسهم أنهم في ضلال.
تمثال ضخم لأحد أهم الأصنام المعبودة في بابل، ويسمي نابو، من معروضات المتحف العراقي حاليا، Osama Shukir Muhammed Amin FRCP(Glasg)، (CC BY-SA 4.0)، via wikimedia commons. |
ففي البداية، وكما يقص علينا القرآن الكريم استنكر عبادة أبيه آزر، هو وقومه للأصنام وغيرها من دون اللّه، رغم أن أبيه آزر نفسه كان نحاتا يعمل في صناعة الأصنام ومنها يكتسب.
ثم خرج أمام قومه وأخذ يهدم أمامهم معتقداتهم البائسة، فلما شاهد كوكبا في السماء أعلن عبادته .. فلما اختفي قال أنه لا يحب أن يكون عبدا لشيء يظهر ويختفي، وتكرر الأمر نفسه مع القمر ثم الشمس.
وهنا أعلن النبي إبراهيم عليه السلام، أنه لا يعبد إلا اللّه، الحي الذي لا يموت، رب الأقمار والشمس والقمر ورب كل شيء ومليكه وخالقه... وقد أورد القرآن الكريم هذه الأحداث في الآيات من ٧٤ : ٧٩ من سورة الأنعام.
وبرغم أن النبي إبراهيم -عليه السلام- قد أوضح لقومه بطريقة عملية ضلال ما يعبدونه، إلا أنهم لم يرجعوا عنه، وهنا قرر الانتقال للمرحلة التالية.
إذ استغل أحد الأيام التي يترك فيها قومه مكان عبادتهم للأصنام، فذهب إليه منفردا، ووقف أمام الأصنام ساخرا منها مستهزأ بها وهو يقول: "أَلَا تَأْكُلُونَ" .. "مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ".
ثم أخذ يضرب الأصنام بفأس كانت معه، فدمرهم عن بكرة أبيهم إلا كبيرهم.
فلما عاد قومه، هالهم ما وجدوه، وأخذوا يفتشون ويبحثون عن الفاعل، فذكر بعضهم أنهم سمعوا "فتى" يذكرهم بسوء يقال له إبراهيم، فاتجهت كل أصابع الاتهام نحو النبي إبراهيم -عليه السلام-.
فلما ذهبوا إليه، واتهموه بهذا الفعل، حاول إبراهيم -عليه السلام-أن يدفعهم من جديد ليكتشفوا بأنفسهم بطلان عقيدتهم، فقال أن من فعل هذا هو كبير تلك الأصنام، وأنهم يمكنهم أن يسألوه.
أراد أبو الأنبياء أن يلفت نظر قومه إلى أنهم يعبدون حجارة جامدة لا فعل لها ولا أرادة وحركة، أصنام هم من صنعوها ومنحوها أسمائها، ولبعض الوقت يستعيد قومه رشدهم، ويدركون بئس عبادتهم، لكنهم سرعان ما يعودون إليها بل ويقرروا أن يلقوا بالنبي إبراهيم في نار عظيمة صنعوها خصيصا له.
بردا وسلاما:
بدأ قوم النبي إبراهيم -عليه السلام- يصنعون النار التي سيحرقونه فيها، لقد أرادوها نارا عظيمة، ينتقمون بها ممن حطم آلهتهم.
والحقيقة أن هذه النار، كانت دليلا حيا على عظمة الخالق الواحد الأحد، بل وتحديه للمشركين.
كان بمقدور اللّه -عز وجل- أن يمنع المشركين من إتمامها، كان بمقدوره القادر على كل شيء أن يرسل ملائكة أو أيا من عباده لتهريب النبي إبراهيم -عليه السلام-، كان هناك الكثير من الأشياء التي تمنع إلقاءه في النار، بل أن يرسل مطرا لتطفئها بعد إشعالها.
رغم هذا، فإن اللّه -عز وجل- جعلهم يتمون النار، بل ويلقون نبيه إبراهيم فيها، وقيل أنه القي بالمنجنيق لأنه ومن شدة النار، لم يكن أحد يستطيع الاقتراب منها أصلا.
وهنا يذكر القرآن الكريم أن اللّه -عز وجل-، خالق النار، وخالق كل شيء، أمر النار بأن تكون بردا وسلاما على نبيه، بردا فلا تحرقه، وسلاما فلا تكون باردة لدرجة أن يموت من البرد.
وقد وردت هذه الأحداث في الآيات الكريمات من ٦٨ : ٧١ من سورة الأنبياء.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك بعض الأحاديث التي يدور حولها خلاف عن اشتراك الوزغ "البرص" في تأجيج النار التي إلقي فيها نبي اللّه إبراهيم، ومع ذلك فإن الأمر بقتل هذا المخلوق من الزواحف أمر ثابت لأنه من الفواسق ومن المفسدين في الأرض، سواء صحت أحاديث مشاركته في تأجيج النار أو لم تصح.
حواره مع النمرود:
لوحة تخيلية للملك النمرود، لوحة بريشة الرسام الاسكتلندي ديفيد سكوت، Glasgow Museums Resource Centre، public domain، via wikimedia commons. |
من أهم محطات حياة وبعثة النبي إبراهيم -عليه السلام-، كان اللقاء الذي جمعه بالنمرود، أقوى ملوك الأرض يومئذ.
لم يكن النمرود ملكا جبارا فحسب، بل كان مدعيا للإلوهية، وقد ورد ذكر الحوار بينه وبين النبي إبراهيم -عليه السلام- في قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)). {الآية ٢٥٨ من سورة البقرة}.
ويمكنكم الإطلاع على بقية قصة النمرود من خلال تقريرنا: ((النمرود.. أول طاغية يحكم الأرض.. مدعي الإلوهية الذي قتلته باعوضة)).
مع نبي اللّه لوط:
لم يؤمن من قومه للنبي إبراهيم -عليه السلام ودعوته إلا عدد قليل للغاية من قومه، كان منهم لوط -عليه السلام-، والذي سيكون هو نفسه نبيا فيما بعد.
سيكون بعث نبي اللّه لوط إلى قوم يفعلون الخبائث، بالإضافة إلى قطع الطريق، وسيمضي الكثير من الوقت محاولا أن يعيدهم إلى رشدهم، لكن لن يؤمن برسالته إلا قليل منهم.
في النهاية، كان قضاء اللّه عليهم أن ينزل عليهم العذاب فيهلكهم.
وللمفارقة، فإن نفس الملائكة الذين كلفوا بهذه المهمة، كلفوا قبلها بمهمة أخرى لكنها كانت عكسها تماما كانت (بشرى) لنبي اللّه إبراهيم، بأن اللّه سيهبه من زوجته العجوز العقيم ابنا.
ويقص علينا القرآن الكريم تلك الأحداث في سورة لوط، في قوله تعالى: ((قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۖ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ۚ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۖ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)).
كما وردت في سورة العنكبوت، في قوله تعالى: ((وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)).
إسماعيل الذبيح:
مر النبي إبراهيم -عليه السلام- بأحد أصعب الاختبارات في حياته عندما شاهد في الرؤيا، وهو يعلم أن رؤيا الأنبياء حق، شاهد نفسه يذبح إبنه المحبب إسماعيل.
لم يكن إسماعيل ابنا عاديا للنبي إبراهيم عليه السلام، بل كان الأبن الذي طال شوقه وانتظاره إليه، بعدما كانت زوجته الأولى عقيم لا تنجب، فلما أتى الولد، يأتي أمر بذبحه!!.
والحقيقة أن هذه القضية بالتحديد، أظهرت بدون أدنى مجال للشك مدى التسليم والطاعة التامة من نبي اللّه لربه وخالقه، لكنه اختار بحكمة شديدة أن يعرض الأمر على ابنه إسماعيل في صورة التخيير.
فيأتي رد إسماعيل -عليه السلام- على والده أن يفعل ما يأمره به اللّه، بل وطلب منه أن يسن السكين وأن يجعل وجهه للأسفل حتى لا يرق قلبه وهو يري الخوف أو الألم على وجه ابنه وهو يذبحه فيتراجع.
نجح نبي اللّه إبراهيم ومعه إبنه إسماعيل في هذا الاختبار الذي لا مثيل له، وفدا اللّه -عز وجل- إسماعيل بذبح عظيم، ويذكر القرآن الكريم تلك الأحداث في سورة الصافات، ومنها قوله تعالى: ((وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)).
أصبحت هذه الواقعة جزءا رئيسيا من عيد الأضحى عند المسلمين، إذ يذبحون الأضاحي فيه، وكذلك يفعل حجاج بيت اللّه الحرام، الذين يذبحون الهدى في أول أيام العيد والذي يتزامن مع رميهم لجمرة العقبة، رمزا لانتصار نبي اللّه إبراهيم على الشيطان وغوايته، بعدما حاول أن يوسوس له بعدم تنفيذ أمر الله.
رفع قواعد البيت العتيق:
مما كرم به اللّه عبده ورسوله إبراهيم -عليه السلام- أن منحه شرف رفع قواعد البيت العتيق، ليعود إليه زواره.
فبعدما أمره ربه بأن يذهب إلى مكة المكرمة، وكانت وقت ذهب إليها قد تحولت لمجرد جزء من صحراء جرداء كبيرة، لا زرع فيها ولا ماء، وتنفيذا لأمر اللّه له، ترك زوجته هاجر ومعها إبنه إسماعيل وكان يومئذ طفلا رضيعا.
من بركة نبي اللّه إبراهيم -عليه السلام-وزوجته هاجر وابنه إسماعيل -عليه السلام- ماء زمزم الذي يشرب منه الناس محملا بالخير إلى يومنا هذا، D@LY3D، (CC BY 2.0)، via wikimedia commons. |
والحقيقة أننا عندما نتأمل رد فعل زوجة نبي اللّه إبراهيم -عليه السلام-، (السيدة هاجر) وهي القادمة من أرض مصر، العامرة بنهر النيل الفياض، والأرض المزروعة الخضراء، وتجد زوجها يتركها في هذا المكان ويغادر، فإنها تسأله عما إذا كان هذا من رأيه .. ام أمرا من عند اللّه .. فيجيبها عليه السلام بأنه أمر اللّه، فتتركه وهي واثقة من أن اللّه لن يضيعها هي ورضيعها.
عندما نري هذا، ندرك مدى الإيمان والثقة الذي اكتسبته نفس السيدة هاجر، إيمانا بصدق نبوة ورسالة زوجها، وأنها من عند اللّه، رب كل شيء ومليكه.
وكان جزاء هذه الزوجة المؤمنة، ومن قبلها النبي الواثق في ربه، المطيع لحكمه مهما كان قاسيا أو بدا فيه الهلاك، كان الجزاء هو ماء زمزم (سمي بهذا الاسم لأن السيدة هاجر أخذت تقول وهي تري الماء يتفجر أمامها زم .. زم ، وتعني فلينحصر الماء).
أصبح ماء زمزم هو السر الجاذب لحياة الكثيرين إلى مكة التي عادت إليها الحياة مجددا، وأصبحت أهم مدن العرب وأكثرها تبجيلا واحتراما حتى من قبل الإسلام، ومنها سيخرج محمد صلى اللّه عليه وسلم، هاديا ورحمة للعالمين، من ذرية إبراهيم.
كما أصبح من مناسك العمرة والحج، السعي بين جبلي الصفا والمروة سبعة أشواط، وهو نفس عدد الأشواط التي سعتها السيدة هاجر بحثا عن الماء، فالسيدة هاجر لم تجلس وتنتظر الماء ليأتيها، بل قامت وسعت وبحثت وفتشت هنا وهناك لتحفظ حياتها وحياة إبنها الرضيع، وهو درس يعلمنا التوكل لا التؤاكل.
سيعود نبي اللّه إبراهيم -عليه السلام- إلى مكة، حيث سيستقر فيها، ومن ثم يأتيه أمر اللّه بأن يرفع قواعد البيت ليعود الناس إليه حجاجا وقاصدين.
وعن ذلك نقرأ من آيات الذكر الحكيم من سورة البقرة: ((إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)).
ومن يزور البيت الحرام في يومنا هذا يجد مقام إبراهيم في صحن الحرم، وهو المكان الذي كان يقف عليه النبي إبراهيم -عليه السلام-ليبني الكعبة، وقد بنيت عليه قبة زجاجية يظهر المقام من خلفها.
وفي نهاية هذا التقرير عن النبي إبراهيم -عليه السلام- أبو الأنبياء والداعي للتوحيد، وأول من بدأ الإسلام، وسمانا المسلمين، نختم بقوله تعالى في الآية ١٣٠ من سورة البقرة: ((وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)).