لا أزال أذكر جيدا نهاية ذلك الفصل الدراسي، كان العام ٢٠١١، في واحدة من كليات الطب بدولة عربية، وقف الأستاذ الدكتور يتكلم وهو في قمة التأثر والاهتمام، ويوصي جميع الحضور وصية.
برغم الأهمية الكبيرة للرضاعة الطبيعية بالنسبة للطفل و الأم معا خلال مدة الرضاعة بل وطيلة الحياة، فإن بلادنا العربية تقل فيها معدلات الرضاعة الطبيعية، Petr Kratochvil، public domain. |
كانت كلماته للحضور من الأطباء والطبيبات في المستقبل، بأن يعملوا على توعية الناس بأهمية (الرضاعة الطبيعية).
من أجل تلك الوصية، ووفاء بما أوصى به، ولمواجهة حالة قلة الاهتمام بالرضاعة الطبيعية التي تغزو مجتمعاتنا العربية للأسف الشديد، نقدم لكم هذا التقرير.
أهمية الرضاعة الطبيعية:
لقد بلغت الرضاعة الطبيعية مبلغا عظيما، حتى أنها ذكرت في القرآن الكريم، كأحد أهم ما تقدمه الأمهات لأطفالهن، فيقول عز وجل: ((وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ...)) {الآية ١٥ : سورة الأحقاف}.
وقال تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)) {الآية ١٤ : سورة لقمان}.
وقال تعالى: ((۞ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ)). {الآية ٢٣٣ : سورة البقرة}.
توضيح بسيط هنا: الآية الأولى تشمل مدة الحمل والرضاعة معا، فصارت ثلاثين شهرا، لأن أقل مدة للحمل الذي يولد حيا سليما هي ستة شهور.
فأن تذكر (الرضاعة الطبيعية) في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم، هو خير دليل من خالق البشر، العلام العليم، بأهمية هذا الشيء، عاطفيا ونفسيا، وكذلك صحيا للمولود، بل وللأم المرضعة ذاتها، وهو ما أثبتته البحوث الطبية المتعاقبة.
بالإضافة لذلك، فإن أكثر ما يشغل جميع الأمهات تقريبا بعد الولادة، هو السؤال الشهير عن ما إذا كان المولود يتغذي بشكل جيد؟ .. وهل يرضع بشكل كافي ام لا؟.
من المهم في هذه المرحلة، تشجيع الأم، ودعمها على تغذية الطفل بالرضاعة الطبيعية، وقراءة مثل تقريرنا هذا عن الرضاعة الطبيعية وفوائدها.
حليب اللبأ:
الالتقاء الأول بين الطفل وثدي أمه يحمل له حليب اللبأ، أول هدايا الأم في حياة وليدها، Public Domain. |
من المهم أيضا في البداية أن نشير لأهمية أن يحصل الطفل على الحليب الأول الذي يخرج من صدر أمه بعد الولادة مباشرة.
هذا الحليب الأول الذي تنتجه الأم، يكون عبارة عن سائل أصفر خفيف يُسمَّى اللبأ colostrum، واللبأ غني بشكل خاص بالسُّعرات الحراريَّة و البروتين وكريات الدَّم البيضاء والأجسَام المضادَّة، ويمكن أن نعتبره الهدية الأولى التي تهديها الأم لمولودها الجديد.
حليب اللبأ أيضا هو محارب ممتاز لأحد أول المشاكل الصحية التي تواجه نسبة كبيرة من الأطفال بعد ولادتهم مباشرة، ونقصد هنا زيادة نسبة الأصفرار في الدم والتي تعرف باسم (اليرقان).
هذا وتستطيع الأم أن تبدأ في إرضاع طفلها في غضون ساعة واحدة فقط من الولادة، بعكس الاعتقاد الخاطئ بأن الطفل يجب إبعاده عن أمه بعد الولادة حتى ترتاح.
في الواقع، فإن الرضاعة الطبيعية بعد الولادة، وبخلاف فوائد حليب اللبأ، تُشعره بالأمان وتدفئه. كما أن البدء في الرضاعة الطبيعية خلال الساعة الأولى بعد الولادة يساعد أيضًا على استمرارها ويساهم في زيادة لبنك، وهو أفضل مسكن للألم لكِ.
فوائد الرضاعة الطبيعية بالنسبة للطفل:
بخلاف كون الرضاعة الطبيعية هي المصدر الأول والأهم لغذاء الطفل، تقدم الرضاعة الطبيعية العديد من الفوائد للطفل الرضيع، ومنها:
- أنه ومن بديع خلق اللّه -عز وجل- أنه ومع نمو الطفل، يتغير حليب ثدي الأم لتلبية احتياجاته الغذائية التي تتزايد وتتغير كلما كبر في العمر، وهذه النقطة بالذات تحاول شركات صنع اللبن الاصطناعي تقليدها بتغيير مكونات الحليب الذي تنتجه بين كل فئة عمرية وأخرى، ولكن وبالطبع لا يوجد حاجة لتوضيح الفارق بين الشيء الطبيعي وذلك المقلد اصطناعيا.
- زيادة قوة وصحة أسنان الطفل.
- تحسين نموه العصبي.
بلغت فوائد الرضاعة الطبيعية مبلغا كبيرا، ويمتد بعضها طيلة حياة الإنسان، UNICEF Ethiopia، (CC BY-NC-ND 2.0) via Flickr. |
- الطفل الذي يرضع بشكل طبيعي تقل لديه مخاطر الإصابة بالتهاب الأذن الوسطى.
- الطفل الذي رضع بشكل طبيعي تكون نتائجه أفضل في اختبارات الذكاء.
- حليب الأم به الأجسام المضادة التي تعمل على التصدي للعديد من أمراض الأطفال.
- تقل احتمالية إصابة الطفل ببعض أنواع الأمراض مثل: ((سرطان الدم، سكري الأطفال، ...)).
- تقليل خطر متلازمة موت الرضيع المفاجئ SIDS، وهي حالة يموت فيها الطفل بدون أن يكون هناك سبب واضح أو مرض قد أصابه، وغالبا ما تحدث خلال النوم، للأطفال الذين تقل أعمارهم عن سنة واحدة.
- تقل احتمالية إصابة الطفل بالربو، البدانة، أمراض الجهاز التنفسي السفلي الشديدة، التهابات الجهاز الهضمي (الإسهال / القيء)، التهاب الأمعاء والقولون الناخر، وبعض الأمراض الجلدية.
- تقل أيضا احتمالات الاصابة بداء كرون، وهو مرض يصيب الجهاز الهضمي، ولم يتوصل الأطباء حتى الآن إلى علاجه.
فوائد الرضاعة الطبيعية بالنسبة للأم:
لا تتوقف فوائد الرضاعة الطبيعية عند الطفل، بل تمتد لتشمل الأم المرضعة ذاتها.
وتبدأ هذه الفوائد منذ المرة الأولى التي ترضع فيها الأم وليدها، وتمتد حتى بعد إنتهاء فترة الرضاعة تماما، وتشمل:
- تساعد الرضاعة الطبيعية بعد الولادة على تقليص الرحم، والحد من النزيف الذي تسببه عملية الوضع.
- على الصعيد النفسي، فمع إرضاع الطفل، تزيد علاقة الحب والعاطفة بين الأم ومولودها الجديد.
- مما قد يشكل حافزا بالنسبة للكثير من السيدات، أن الرضاعة الطبيعية تساعد على عودة الأم لوزنها قبل الحمل.
تعد الرضاعة الطبيعية أحد عوامل تقليل الإصابة بسرطان الثدي، Attribution 2.5 Generic (CC BY 2.5), llustrator; C. Carl Jaffe, MD, cardiologist |
- تقل احتمالية إصابة السيدات اللواتي أرضعن أولادهن بشكل طبيعي بسرطان المبايض، وكذلك سرطان الثدي.
- ينخفض احتمال إصابة الأم بأمراض القلب والأوعية الدموية.
- مع استمرار الرضاعة الطبيعية، يعود ثدي المرأة لينا من جديد، إذ وبحلول اليوم الثالث او الرابع من الولادة، تقول معظم السيدات أنهن يشعرن بتورم الثدي. لكن بعد ذلك بيومين ستشعرين بمزيد من الراحة بخصوص ثدييك ولكنك ستشعري إنهما ملآنين قبل اطعام طفلك. هذا الشعور بالملء سيخف مع مرور الاسابيع باستثناء الوقت الذي تنقطعين فيه عن إرضاع الطفل، وهذا التغيير في الشعور لا يعني انك تنتجين كمية اقل من الحليب.
أخطاء الرضاعة الطبيعية:
برغم هذه الأهمية الكبيرة للرضاعة الطبيعية، فإن هناك بعض الممارسات الخاطئة التي تقوم بها الأمهات عند الرضاعة.
لعل السبب الرئيسي في هذه الأخطاء ، أننا لا نتعامل مع الرضاعة الطبيعية بشكل صحيح، نظن أنها شيء نقلد الآخرين في فعله، وينتهي الأمر، في حين أن الرضاعة الطبيعية تعتبر (مهارة جديدة) تكسبها السيدات بالتعود والممارسة ومرور الوقت.
هذا أيضا هو رأي منظمة يونيسف "منظمة الأمم المتحدة للطفولة" والتي تقول أن الطفل يولد بغريزة البحث عن صدر أمه لكي يرضع، لكن الأم عليها أن تتعلم كيف ترضع طفلها بشكل سليم.
لذا، وكما قد تصبر المرأة وتحاول مرارا وتكرارا التعود على مهارات في العمل أو المنزل أو الحياة، فمن باب أولى، أن تفعل ذلك في حالة الرضاعة الطبيعية، ومع الوقت ستتجنب الأخطاء التي تقع الكثيرات فيها، ومن ذلك على سبيل المثال:
- استخدام الهاتف المحمول خلال الرضاعة (قد ينتج ذلك عن النوموفوبيا أو إدمان الهواتف الذكية)، وعدم الإنتباه للطفل خلال الرضاعة.
- الإعتقاد بأن الرضاعة الطبيعية غير مشبعة: وهذا اعتقاد شائع، ينتج خطأ عن عدم معرفة أن العشر دقائق الأولى من الرضاعة يحصل فيها الطفل على حليب الأم المكون من الماء والبروتينات والحليب، ثم يحصل على الدهون خلال الخمس دقائق التالية، لذا فإن إرضاع الطفل لمدة ١٠ دقائق من كل ثدي، يجعله لا يحصل على الدهون فلا يشعر بالشبع، لذا فإن الرضاعة الطبيعية السليمة تكون لمدة ١٥ دقيقة على كل ثدي، وحينها يشعر الطفل بالشبع التام.
- الطفل هو إنسان يشعر مثلنا تماما، وكما يحب البالغ أن يأكل وهو مستريح، فالأطفال كذلك، علينا إذن أن لا نثقل كاهله بالملابس الثقيلة خلال الرضاعة وخصوصا في فصل الصيف.
بمرور الوقت، سيكون الطفل أكثر ذكاء وستكون الأم أكثر خبرة، وستصبح الرضاعة الطبيعية أكثر سهولة ويسر، UNICEF Ethiopia، (CC BY-NC-ND 2.0) via Flickr. |
- دمج الحليب الاصطناعي مع الرضاعة الطبيعية خصوصا خلال أول عام، والخطأ هنا أن الطفل سيعتمد في جزء من حصوله على الغذاء على الحليب الاصطناعي، ما سيقلل بالضرورة من الرضاعة الطبيعية، وبمرور الوقت سيقل إنتاج حليب الأم من الثدي أصلا حتى ينقطع تماما، فنكون نحن من حرمنا الطفل من الرضاعة الطبيعية.
- لا تسحبي ثديك من فم الطفل مباشرة، بل تقوم الأم بإيقاف المص عن طريق إدخال إصبعها في فم الرضيع والضغط بلطف على ذقنه للأسفل.
- إذا ظهرت جروح أو التهابات لديكي نتيجة الرضاعة الطبيعية بشكل خاطيء، قومي بالذهاب للحصول على المساعدة الطبية.
الطريقة الصحيحة للرضاعة الطبيعية:
إذا أردنا أن نفهم كيف يرضع الطفل بشكل صحيح، علينا أن نعرف خطوات الرضاعة الطبيعية السليمة، ويمكن حصرها فيما يلي:
- تأكدي دوما أن أنف طفلك غير ملتصق بالثدي، وأنه يتنفس بشكل صحيح طوال مدة الرضاعة.
- في بداية الرضاعة، ستجدين الطفل يقوم بمصات سريعة، ويستمر في ذلك لمدة دقيقة حتى دقيقتين، حينها يبدأ الحليب في التدفق، وستلاحظين بأن مصات الطفل أصبحت بطيئة لأنه أخذ في شرب الحليب.
- يجب الإنتباه مع الطفل، والتأكد من سماع صوته وهو يبلع.
- يجب أن لا تشعر الأم بأي ألم خلال الرضاعة الطبيعية، وفي حالة حدوث ذلك، فهذا يعني أن وضعية الرضاعة غير صحيحة.
- يجب أن تكون بطن الرضيع على بطن الأم، وتكون رأس الرضيع على خط مستقيم مع أقدامه.
- يجب أن تضع الأم يدها برفق شديد خلف رأس الرضيع وتمسك هي برأسه، لأنه لا يستطيع فعل ذلك، وهذا هو الوضع الصحيح وليس أن تقوم الأم بالانحناء للرضيع حتى يصل لثديها.
- يمكنك وضع عدد من الوسائد تحت يدك إذا كنتي تشعرين بالألم في يدك.
- تكون حلمة الثدي ملامسة لشفة الطفل العلوية.
ضد الحليب الاصطناعي:
لا يمكن أبدا أن يقدم اللبن الاصطناعي ما تقدمه الرضاعة الطبيعية من فوائد، برغم كل الدعايا التي تقال حوله، ProjectManhattan، public domain. |
تنفق الشركات المنتجة للحليب الاصطناعي مبالغ طائلة للترويج للحليب الاصطناعي، وتحاول كل شركة أن تبرز العناصر الغذائية التي يحتويها منتجها.
هذا طبيعي، عندما نعلم أن هذه الشركات تحقق عشرات المليارات من الدولارات كل عام من بيع عبوات الحليب الاصطناعي.
ومهما كان الحليب الاصطناعي جيدا، ومهما كان سعره مرتفع، فإنه لن يقدم للطفل نفس القيمة الغذائية التي يحصل عليها من ثدي أمه التي ترضعه بشكل طبيعي.
هذا طبعا بخلاف أن الأم لن تستفيد شيئا من أي من الفوائد الصحية التي ذكرنا أنها تحصل عليها عند الرضاعة الطبيعية.
سيظل لبن الأم هو أفضل مصدر للغذاء السليم للطفل، والذي يمنحه أفضل صحة في بداية حياته.
ولا ننسي طبعا الإشارة إلي الحوادث المتكررة التي يتلوث فيها اللبن الاصطناعي بعناصر مؤذية، مثل بكتيريا السالمونيلا وبكتريا الكرونوباكتر، فنكون أمام حالة عبثية، بدلا من الرضاعة الطبيعية المجانية، يحصل الطفل على لبن ملوث يضر صحته، ويدفع والديه مالا مقابل ذلك.
بخلاف هذا كله، فإن الحليب الاصطناعي نكرر أنه لن يوفر للأم أي فوائد من تلك التي ذكرناها في حالة الرضاعة الطبيعية.
لذا، فإننا وإعمالا لوصية هذا الطبيب الذي ذكرنا قصته في مطلع هذا التقرير، بل وعملا بالتوصيات الطبية الصادرة عن أكبر وأهم المؤسسات الطبية عربيا وعالميا، فإننا نوصي بالرضاعة الطبيعية كغذاء حصري للطفل لمدة ٦ شهور منذ الولادة.
من الشهر السادس يمكن البدأ في إطعام الطفل عناصر غذائية مناسبة بجوار الرضاعة الطبيعية. |
مع العلم أنه يمكن من عمر ٦ شهور وبجانب الرضاعة الطبيعية، تقديم الأطعمة الغذائية المناسبة للطفل، ومن بعد العام الأول، تزيد الأنواع المناسبة لطعام الطفل ويمكن أيضا إدخال السوائل لنظام الطفل الغذائي.
ذلك لأن حليب الأم يعطي الطفل كامل احتياجاته الغذائية خلال أول ٦ شهور من عمره، ثم يوفر ما يقارب نصف الاحتياجات الغذائية للطفل أو أكثر من ذلك خلال النصف الثاني من السنة الأولى من عمره، وما يصل إلى الثلث خلال السنة الثانية من عمره.
في النهاية، لا تفوتي على نفسك وعلى طفلك الرضاعة الطبيعية، بكل ما فيها من فوائد وضعها الخالق سبحانه وتعالى، ولعل الحالة الوحيدة التي تمنع من الرضاعة الطبيعية هي أن تكون بأوامر طبية نتيجة تناول الأم أدوية معينة قد تختلط بحليب الثدي فتضر الطفل، أو أن يخشي من أن تسبب الرضاعة مشاكل صحية كبيرة للأم.
أما غير ذلك من أسباب، فحقا هي تضييع لحق الطفل الرضيع، وتفويت للعديد من الفوائد الصحية للأم، وتذكري دوما أنه حتى ولو كانت قدرتك الصحية على إرضاع الطفل رضاعة طبيعية لا تعطي رضاعة كاملة، فإن الرضاعة الطبيعية بشكل جزئي أفضل من الاعتماد الكامل على الحليب الاصطناعي.
وغني عن القول في ختام هذا التقرير أنه لا يجوز مطلقا للمرأة المرضعة، أن تدخن أو تشرب الكحول خلال فترة الرضاعة الطبيعية.