حتى لا تصدمنا الاجيال القادمة .. كيف كشف الإنترنت مشكلات الشباب الخفية في عالمنا العربي
شكلت ثورة الاتصالات في القرن الحادي والعشرين تغييرا هائلا في نمط حياة
هذا العالم، لكنها وفي الشرق الأوسط شكلت تمهيدا لثورات بعض الشعوب العربية، فكانت
مهدها، وناقلة أحداثها وتطوراتها لحظة بلحظة، وحينما غاب الإعلام التقليدي، تواجدت
دائما شبكات التواصل الاجتماعي.
هذا ناقوس خطر يحذر من ما لا ننتبه إليه على وسائل التواصل الاجتماعي، Pixabay License |
إن تسارع الأحداث منذ 2011 حتى يومنا هذا، لم يتح لنا فرصة كاملة للبحث في
تلك التطورات، ودلائل وجودها واستمرارها وتداعيات ذلك .. لقد مثلت الثورات صدمة
غير متوقعة لشعوبنا قبل أنظمتنا، وخصوصا أنها أتت من مكان غير تقليدي علي الإطلاق،
أو كما يحلو للبعض أن يقول "أتت من آخر مكان متوقع أن تأتي منه".
مجتمع آخر:
عبر تجربتي الشخصية، فلقد اختلفت تلك الشبكات تماما في فترة ما قبل 2011،
عن ما تلي ذلك التاريخ من أيام، فبينما اقتصرت بشكل كبير قبل انطلاق الثورات علي
فئات الشباب من الطبقات العليا والمتوسطة، فأنها ومع مرور الوقت، وخصوصا مع إندلاع الثورات والانتفاضات والحروب الأهلية في منطقتنا، تحولت إلي مجتمع
موازي بكل ما تحمله الكلمة من معاني.
لقد ضمت هذه الشبكات –ولا تزال- كل فئات المجتمع، وحتى الدنيا منها، بل جذبت حتى المؤسسات الرسمية والخاصة والشركات، بل أن الجماعات الإرهابية وجدت فيها مرتعا خصبا لنشر أفكارها المتطرفة، وجذب المتطوعين والحصول علي التمويل.
وبينما تبدو تلك الكلمات مكررة، فأن فئة أخري غير ملحوظة بشكل كاف للكثيرين، تقبع في أعماق ذلك المجتمع، ممسكة بفأسها تتحين الفرصة المناسبة لتخرج علينا مشتتة أطراف قريتنا.
أنها تلك الفئة من الشباب والفتية -أو الأغلبية الكاسحة منها تنتمي لتلك الفئة العمرية-، والتي تتصف بأنها رافضة للكثير من الثوابت والمبادئ التي تتعارف عليها مجتمعاتنا العربية، فتبدلت مسماها لديها إلي "عاهات وتقاليد".
ولعل أخطر تلك المخالفات، هي الإلحاد، اليوم هناك صفحات بها مئات الآلاف من المتابعين، تشكك في وجود خالق لهذا الكون، وتزدري جميع الأديان، وسلاحها الأبرز هو قلة العلم المتفشي بين تلك الفئات العمرية، وعجزهم عن الرد علي المتشابهات التي يعرضونها.
وبينما تنشغل الكثير من مؤسسات الدول العربية الدينية الرسمية بمواجهة ظاهرة الإرهاب والتشدد الفكري، تنسل من بين أيديها تلك المواجهة، أو ربما لا تعير لها اهتماما، هذا إن افترضنا أنها قد لفتت انتباها أصلا.
وبجانب الإلحاد، نجد تراص لأفكار أخري، من بينها الانحلال الجنسي، صفحات تعج بمواد جنسية فاضحة، وتعليقات تحرض علي الفجور.
لكن النقطة الهامة في صفوف رواد تلك الصفحات، هي تعمدهم عدم إظهار شخصياتهم الحقيقية، فيعتمدون علي إنشاء حسابات بأسماء وهمية، كي لا يتعرف عليهم أحد من دائرة أقاربهم أو معارفهم.
على نفس المنوال، نجد دعوات أكثر صراحة هذه المرة، لما أصبح يعرف "باستقلال المرأة"، وهو شيء غريب لا تربطه أي صلة بدعوة المفكر والقاضي المصري الراحل "قاسم أمين"، حينما دعا لتحرير المرأة.
فالمرأة المستقلة في مفهوم هؤلاء، تلك التي تغادر منزل أهلها، لتقيم في منزل آخر وحيدة، أو مع مجموعة أخري من السيدات، تعمل وتنفق علي نفسها، هي لا تطمع في تكوين أسرة، أو ذلك في آخر سلم طموحاتها، وهنا الطامة الكبرى، فإذا كان أحد عنصري تكوين الأسرة، غير ملتفت لذلك، فما السبيل؟ بل وصل الأمر في بعض الأحيان للاعتقاد بأنه من حق من ترغب منهن في إنجاب طفل، أن تحصل عليه من علاقة آثمة خارج مؤسسة الزواج.
كل هذه الأفكار تنشرها صفحات أحيانا يتراوح أعمار المسئولين عنها بين أربعة عشر وخمسة عشر عاما، لكن سيكون من الخطأ حصر النظرة في تلك الفئة العمرية، فهذا الجيل يضم حتى من هم أقل من هذا السن وصولا إلي من يعيشون في عقدهم الثالث من العمر وأكبر من ذلك أيضا.
المواجهة الشاملة:
إن السبيل لمواجهة ذلك كله، هو أن تكون مواجهتنا له "مواجهة شاملة"، علي عدد من الأصعدة "القانونية، والدينية، والاجتماعية، والاقتصادية".
فعلي الصعيد القانوني، لا تزال العديد من دولنا العربية تفتقد إلي التشريعات الخاصة بالإنترنت، وحتى تلك التي وضعت تشريعاتها ركزت فيها علي مواجهة الجريمة الإلكترونية، أو مكافحة نشاط العصابات الإرهابية عليه، وهي في غضون ذلك لا تزال بعيدة تماما عن الأسئلة الكبيرة التي تطرحها تلك الظاهرة، والتوازن بين خصوصية الفرد ومصلحة المجتمع.
أما علي الصعيد الديني، فالمشكلة مركبة، بين أن مؤسسات الدول العربية الدينية أصلا تواجه مشكلاتها التقليدية من البيروقراطية، مرورا بضعف الكفاءات الإدارية والعلمية، ووصولا إلي أن الكثير من الدعاة المنتمين لصفوفها بعيدين عن قضيتنا تماما.
لكن دار الإفتاء المصرية لها تجربة مميزة يمكن الاستفادة منها والبناء عليها، والمتمثلة في "مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة" الذي يواجه استغلال الجماعات الإرهابية للإنترنت في نشر سموم أفكارها، فكرة كتلك ستكون متميزة وخصوصا أنها تستخدم نفس آلية انتشار الظاهرة، وهي شبكات وسائل التواصل الاجتماعي، إن حرب الحفاظ علي المجتمع لا تقل خطورة عن معاركنا ضد الإرهاب.
اجتماعيا، تتغير المفاهيم، وينسلخ عنا الكثير من الجلد الذي يغطينا، حتى ظهرت سوأتنا أو تكاد، إن هذا الجيل الذي فتح عينه، وشب في الطوق منفتحا علي العالم بكل أفكاره، دون أن نطعمه نحن بأفكار وأعراف مجتمعاتنا العربية، كنا نحن أول من قصر في حقه، وقديما قالوا أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي أبدا، وهنا فأن وسائل الإعلام، وكل المنصات التثقيفية علي موعد مع تحدي كبير.
كما إننا قد نستفيد مثلا من التجربة الصينية في هذا المجال، والتي جعلت هناك "تحديد وقتي" على استخدام الأطفال والفتيان والفتيات للإنترنت، بحيث لا يزيد عن ثلاثة ساعات في الأسبوع الواحد وتكون في أيام العطلة الدراسية، وذلك لمن هم أقل من 18 سنة.
إن مثل هذا التحديد الوقتي يسمح ببناء شخصية الفرد قبل الإلقاء به في عالم التواصل الاجتماعي، بناءها دينيا وثقافيا واجتماعيا، وتعويده على الإنطلاق وليس الانحباس داخل هذه المخدرات الإلكترونية .. وتعبير المخدرات هنا هو تعبير حرفي وليس مجازي ((طالع تقريرنا: النوموفوبيا.. ادمان الهواتف الذكية.. كيف تعرف اذا كنت مصابا.. وكيف تتخلص من هذا الإدمان)).
وأخيرا، رحم الله الفاروق عمر بن الخطاب -كرم الله وجهه- حينما قال
"لو كان الفقر رجلا لقتلته"، ولا شك أن الأحوال الاقتصادية السيئة
الطاحنة أحيانا، تجعل من الإنسان أكثر عرضة لتغيير الثوابت والمبادئ، كما أن القوة
الشابة الراكدة في مجتمعاتنا سئمت من الخمول، ووجدت في تلك المنصات الإلكترونية
للتواصل الاجتماعي، وسيلة لتنفيث ما يعتصرهم، دون أن تنتبه أنها تدمر لهم الكثير من جوانب حياتهم.
هذه إستراتيجية شاملة، ينبغي وضعها من متخصصين في هذه المجالات، وتنفيذ أجزاء منها، وترك بعضها دون اقتحام ومباشرة، هو بالضبط كأن ندخل سباقا ضد عداء محترف ونحن نعرج بأحدي قدمينا، أن هذا الجيل يمتلك من عوامل القوة، ما يمكنه أن يمثل لأمتنا أفضل الأجيال العربية ربما منذ قرون، وفي الوقت ذاته، قد يكون قنبلة موقوتة، تنفجر في وجوهنا جميعا، في وقت لا يعلمه إلا الله، الذي أمرنا أن نعد ما نستطيع لنواجه ما نخشى.