عندما أشرق شمس ٢٣ يوليو ١٩٥٢ على مصر، تلك البلاد الناجية من التاريخ، كان جيشها يكتب صفحة جديدة في مجلدات تاريخها الضخم، معلنا النهاية الفعلية لحكم أسرة محمد علي باشا لمصر.
الملك فاروق الأول .. ملك مصر والسودان، (Photo by Hulton Archive/Getty Images)، (CC BY-NC-SA 2.0)، via Flickr. |
إنها قصة ملك وجد نفسه على عرش أهم بلاد الشرق وهو لم يكمل الخامسة عشر من عمره بعد، سيحتاج الأمر ١٦ عاما حتى ينتهي حكمه، بل حكم أسرته كلها لمصر. ففي ذلك اليوم، تحركت مجموعة من الضباط من ذوي الرتب المتوسطة يقودهم اللواء محمد نجيب أحد أبطال حرب فلسطين، ليزيحوا الملك فاروق الأول، الحاكم العاشر لمصر من أسرة محمد علي.. الذي سيصبح آخر ملوك مصر الفعليين عن عرشه.
فاروق:
في الحادي عشر من فبراير من العام ١٩٢٠، غمرت السعادة قلب الملك المصري فؤاد الأول.
ففي ذلك اليوم وضعت زوجته الملكة نازلي ابنا ذكرا .. سيفعل فؤاد كل شيء ليضمن ولاية العهد لهذا الصغير، الذي اسماه فاروق.
جاء الاسم إيمانا من ملك مصر بما حدث له ذات ليلة التقي فيها بعرافة، قصت عليه أنه سيكون ملكا لمصر وسيمتد الملك له في ذريته من بعده، شريطة الحفاظ دوما علي هذا الحرف "ف" F بالإنجليزية.
ويبدو أن فؤاد الأول لم يصدق النبوءة فحسب، بل آمن بها إيمانا مطلقا، حتى شغلته دوما، فها هم أبناءه جميعا تبدأ أسمائهم بالحرف الذهبي "فوقية وفاروق وفوزية وفائزة وفائقة وفتحية".
وبجانب الاسم، وإيمانا منه بأن هناك الكثير من الطامحين لولاية العهد في أسرة محمد علي باشا، تحرك الملك فؤاد سريعا، ولم يكد يمر سوي شهر واحد فحسب من ميلاد فاروق حتى تم تعيينه وليا للعهد بموافقة الإنجليز.
عندما عين فاروق وليا للعهد، منحه أبوه الملك فؤاد أيضًا لقب (أمير الصعيد).
وكعادة الإنجليز في الممالك التي كانت حمايتهم أو احتلالهم في تلك الفترة، حرصت السفارة البريطانية في القاهرة أن تدفع بمربية بريطانية لتعهد بتربية ولي العهد الصغير، والملك القادم.
صورة يبدو من التعليق عليها أنها صورة رسمية، تجمع بين الملك فؤاد الأول، وولي عهده ابنه فاروق في أول حفلة رسمية يحضرها. |
وهكذا تربي فاروق في كنف مربيتين أحدهما إيرلندية والثانية إنجليزية، سيكون للمربية الانجليزية التي عرف عنها الصرامة والحزم، بالغ الأثر في تكوين فاروق وهو صغير، وعلى أي حال لم يحب فاروق هذه السيدة، وكان كثير الحنق والغضب من أسلوب تعاملها معه.
ومما لايغض النظر عنه في تربية وتنشأه فاروق، هو طبيعة والده الملك فؤاد نفسه، والذي كان رجلا أوتوقراطيا متقدم في العمر، عزل ابنه عن الإختلاط بالناس وبالأطفال من عمره ولو من أبناء الأسرة العلوية، فكانت تسليته الوحيدة في اللعب مع شقيقاته البنات لا غير، بخلاف عدد من أفراد الحاشية ذوي الجنسية الإيطالية، ومنهم شخص يدعي بولي، سيكون له دورا كبيرا فيما بعد في حياة الملك المصري الأخير.
وفاة الملك فؤاد:
في الثامن والعشرين من أبريل/نيسان عام ١٩٣٦، رحل الملك فؤاد الأول عن عالمنا، وابنه وولي عهده "فاروق" في إنجلترا حيث كان يكمل دراسته العسكرية في بعثة ترأسها عزيز باشا المصري أحد أهم أسماء العسكرية المصرية في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد ضباط الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى، نفس البعثة التي تعرف فيها فاروق على أحمد حسنين باشا مستشاره المقرب فيما بعد.
قطع فاروق دراسته في بريطانيا وعاد إلي مصر، لكنه لم يكن من الممكن له في ذلك الوقت الصعود مباشرة لعرش أباءه وأجداده.
كان عائق السن مانعا لفاروق حينها، ما دعا لتشكيل ((مجلس وصاية)).
لكن رائحة القلق كانت تعبق الأجواء، فهناك أمير متربص اسمه محمد علي توفيق، كان يري نفسه أحق بالعرش من الملك الراحل "فؤاد" نفسه، وبدأ الحديث عن محاولاته للقفز على العرش، ومحاولاته التواصل مع الإنجليز لاقناعهم بنفسه.
جاء الحل هذه المرة من أعلى مرجعية دينية في مصر، وربما في العالم الإسلامي كله، من شيخ الأزهر الشريف وقتها، الإمام محمد مصطفى المراغي.
افتي شيخ الأزهر حينها بأن يحتسب عمر الملك فاروق بالتقويم الهجري لا الميلادي، ما وفر للملك نحو ٢٠٠ يوما ليكمل الثامنة عشر، كان هذا التوقيت حيويا للغاية في قطع الطريق أمام الأمير محمد على.
صعد الملك فاروق للعرش في ٢٩ يوليو ١٩٣٧، وانعقدت حوله في بداية حكمه الكثير من الآمال حول الملك الشاب الذي سيصلح حال البلاد، وحظي بشعبية جارفة في بداية حكمه، أخذ الوقت ينقص منها شيئا فشيئا كما سنرى.
امكانيات وطموحات:
إذا ما دققنا النظر في مسيرة الملك فاروق الأول، سنجد هناك دوما كلمتين حكمتا أهم لحظات حياته، إنهما (الإمكانيات والطموحات).
دائما ما كانت طموحات الملك كبيرة، ولكنها عادة ما أصطدمت بقلة إمكانياته، وقلة خبرته، وتكوينه الشخصي حتى كإنسان.
كان الملك طموحا في حياة زوجية سعيدة على عكس علاقة والده بوالدته الملكة نازلي، لكن الأمور ساءت ليس فقط لدرجة طلاقه لزوجتيه الأولى والثانية، بل إن والدته نفسها تمردت عليه وكانت سببا -كبيرا كان أو صغيرا- في سخط الناس عليه.
كما كان الملك طموحا في أن يكون له مشروع نهضة كبرى على غرار جده محمد على باشا، وجده إسماعيل، لكنه وعندما اتيحت له الفرصة للقاء الرئيس الأمريكي روزفلت في قناة السويس، على سطح البارجة الحربية الأمريكية "كوينسي"، لم يحدثه بشكل إستراتيجي كما فعل نظيره ملك السعودية مثلا ((عبد العزيز آل سعود)) حينما أبرم تحالفا تاريخيا مع الأمريكيين لايزال ساريا حتى يومنا هذا ((يمكنكم الإطلاع على مزيد من التفاصيل في تقريرنا: تاريخ النفط في السعودية.. قصة اكتشاف البترول في المملكة)).
لكننا نجد الملك يطلب من الرئيس الأمريكي روزفلت أن يتوسط لديه عند الإنجليز لعزل السفير البريطاني في القاهرة السير مايلز لامبسون، الذي كان الملك فاروق يحمل كراهية عميقة تجاهه لاحساسه أنه أهانه يوم حادثة ٤ فبراير الشهيرة.
والقائمة تطول لتشمل حرب فلسطين التي دخلها حالما بتحقيق نصر عسكري كبير على عصابات الصهاينة، يعيد له أمجاد جيش مصر في عهد إبراهيم باشا ابن محمد على، وغير ذلك من أمثلة يصعب حصرها جميعا في هذا المقام.
حتى في حفل تنصيبه، أعجبته فكرة أن يقوم الشيخ مصطفى المراغي بتقليده سيف جده محمد علي، لكن رئيس الوزراء حينها مصطفى النحاس رفض الفكرة وأصر أن ينصب الملك كما جاء في الدستور أمام البرلمان.
وهكذا، دارت حياة الملك فاروق بين طموحات كبيرة، وإمكانيات لم تكن تتناسب مع لحظة وتحديات الظرف التاريخي.
حادثة ٤ فبراير:
تعد حادثة ٤ فبراير ١٩٤٢، إحدي الحوادث الجلل في عهد الملك فاروق، ولا مبالغة على الإطلاق إذا ما قلنا أن هذه الحادثة ألقت أثرها على مستقبل الأحداث في مصر لعقود متتابعة.
الدبابات والجنود البريطانيين يحاصرون قصر عابدين. |
وتعود أسباب الأزمة إلي حالة العصبية الشديدة التي مر بها الانجليز في تلك المرحلة من الحرب العالمية الثانية، حيث كان القتال مستعرا، وفي جبهة شمال أفريقيا، كانت قوات القائد الألماني الشهير روميل تكتسح القوات البريطانية أمامها، وبدا أن الأمر مجرد وقت حتى يدخل الألمان إلي القاهرة.
في ذلك الوقت العصيب، احتاج الإنجليز أولا إلي حكومة تحوز ثقة الشعب وفازت بالأغلبية في آخر انتخابات تم تنظيمها، (حكومة الوفد بالتحديد) لتتمكن من إتخاذ القرارات الحاسمة واللازمة في الوقت المطلوب.
كما لم تكن المخابرات البريطانية غافلة عن نشاط الملك فاروق واتصالاته مع الألمان.
وهنا بالمناسبة قد يكون من المفهوم من الناحية الوطنية أن يكون لملك مصر حساباته حتى وإن أخطأ بها في التواصل مع أحد طرفين معركة تدور على أرض بلاده كجزء من حرب عالمية كبرى، لذا كان مطلوب وبشدة بالنسبة للبريطانيين حكومة تقيد هذا الملك وتحركاته التي تدور لصالح الألمان.
وهكذا، عقد السير مايلز لامبسون اتفاقا مع أمين عثمان باشا، القيادي في حزب الوفد، يتم بموجبه فرض حكومة الوفد بقيادة مصطفي النحاس وبأي شكل على الملك فاروق، وكان الاتفاق شاملا أن يقبل النحاس تكليفه بالحكومة مهما كانت الطريقة التي سيتصرف بها لامبسون مع الملك، وأن لا تحركه أي دعاوى وطنية لرفض الوزارة لأنها جاءت إليه بشكل غير لائق بملك البلاد.
كان مصطفى النحاس يريد العودة لرئاسة الوزراء، بعدما عزله الملك الشاب، ويراها حق له، فهو زعيم حزب الوفد ذو الأغلبية، وهو الرجل الذي توصل لإبرام معاهدة ١٩٣٦ مع بريطانيا العظمى. لذا لم يمانع أن يعود ولو على متن دبابات الإنجليز بل والتضحية بصورة الملك ذاته.
وهنا بدأ مايلز لامبسون في التحرك، واستدعي (أحمد حسنين باشا) رئيس الديوان الملكي، وطلب منه أن يقوم الملك بتعيين النحاس باشا بشكل فوري رئيسا للوزراء.
لكن القصر الملكي لم يبدو أنه سيستجيب لطلب السفير البريطاني، برغم عقده مشاورات مع زعماء الأحزاب السياسية في ذلك الوقت، مشاورات حضرها النحاس نفسه، بالطبع دون أن يعلم أحد باتفاقه السري مع لامبسون.
ومع مرور الوقت دون الاستجابة لطلبه، هنا بدأ لامبسون في التحرك بشكل عنيف، إذ اتصل بأحمد حسنين باشا مجددا، ووجه إنذارا للملك فاروق بتعيين حكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس باشا قبل الساعة السادسة مساء يوم ٤ فبراير ١٩٤٢، وإلا فعلي الملك فاروق تحمل نتائج ما سوف يحدث.
وعند التاسعة من مساء ذلك اليوم، احاطت نحو ١٠٠ من الدبابات والمدرعات البريطانية بقصر الملك فاروق، ودخل السير مايلز لامبسون قصر عابدين دون أن يتبع كبير أمناء القصر "سعيد باشا ذو الفقار"، ما يعني اقتحاما رسميا لقصر الملك.
وأمام الملك انفجر لامبسون وهو يعرض عليه ورقة مكتوب بها نص تنازل الملك فاروق عن العرش، فإما أن يوقعها الملك أو سيعتقله الضباط الانجليز وسينقل خارج مصر، وبالتحديد إلي كندا.
وفي مذكرات السير مايلز لامبسون، يقول أن الملك فاروق كان سيوقع على ورقة التنازل عن العرش بالفعل، لولا تدخل أحمد حسنين باشا والذي امسك بيده، وأدار معه حوار قصير بالعربية، انتهي بأن طلب الملك فاروق من لامبسون فرصة أخرى.
وهنا وافق لامبسون على منح الملك فرصة، لكي لا يخلق أزمة قد تحدث مع الشعب في مصر إذا ما علم أن سفير بريطانيا خلع ملك مصر عن الحكم، وبالطبع تم تنفيذ مطلبه الأساسي، وتم تكليف النحاس باشا بالوزارة.
الحرس الحديدي:
من الأوراق الهامة في دفاتر حياة الملك الفاروق، كان ما يتعلق بالحرس الحديدي.
كان الحرس الحديدي نتيجة مباشرة لحادثة ٤ فبراير، إذ أراد الملك إنشاء كيان يحميه، والأهم من هذا، ينتقم لكرامته المهدرة.
تورط الحرس الحديدي في اغتيالات ومحاولات اغتيال شهيرة في تاريخ مصر، منها حادثة اغتيال أمين عثمان باشا، الذي كان حلقة الوصل بين النحاس ولامبسون في الاتفاق الذي قاد لحادثة ٤ فبراير.
النحاس باشا أيضا تعرض لثلاثة محاولات اغتيال في غضون ستة أشهر.
حرب فلسطين ١٩٤٨:
لم يكتمل عهد الملك فاروق حتى دخلت مصر فيه حربا.
الملك فاروق يستمع لشرح قادته خلال زيارته للجبهة في حرب فلسطين عام ١٩٤٨، (CC BY-NC-SA 2.0)، via Flickr. |
في حرب فلسطين ١٩٤٨، وبرغم كل شيء، أبدي الجيش المصري بسالة منقطعة النظير، وسيطر على مساحات كبيرة من أرض فلسطين المحتلة، حتى بلغ الفاصل بينه وبين القدس وتل أبيب عشرات الكيلومترات فقط (نحو ٣٥ كم)، وذلك قبل إقرار الهدنة الأولى.
وكعادة الملك فاروق، بين الإمكانيات الفعلية والطموحات كانت حرب فلسطين ١٩٤٨.
لقد خاضت الجيوش العربية الحرب ضد الصهاينة، والصهاينة متفوقين في كل شيء، من حيث العدد، ومن حيث التسليح، وكذلك من نواحي المخابرات، ومع كل هذا كان لدي معظمهم خبرة قتالية هائلة لمشاركتهم في جيوش الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، في حين دخل العرب القتال لأول مرة في حرب حديثة.
انتهت الحرب بهزيمة الجيوش العربية، ولكنها خلفت ورائها بعضا من أهم أسباب حركة الجيش المصري ضد الملك في يوليو ١٩٥٢.
لقد شاهد الضباط ضعفا في الإمدادات التي تصل إليهم، كما عرفوا عن قادة الجيش الذي جاء بهم الملك قلة معرفة ودراية بفنون الحرب الحديثة، وفوق كل هذا ما أثير عن الأسلحة الفاسدة، والتي وللحقيقة وللتاريخ ثبت أنها لم تكن فاسدة بل كان بعضها يحتاج لمجرد صيانة والبعض الآخر تم استخدامه بشكل خاطئ.
على سبيل المثال، ذكر الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان الجيش المصري في حرب أكتوبر ١٩٧٣، وهي نفس شهادة الفريق عبد المنعم خليل قائد الجيش الثاني الميداني في مصر في حرب الاستنزاف والجزء الأخير من حرب أكتوبر، وكلاهما قاتل في حرب فلسطين، وكلاهما من أهم الشخصيات العسكرية في التاريخ المصري والعربي عموما.
ذكر الرجلين أن القنابل اليدوية التي تم إمداد الجيش بها كانت من نوع هجومي ينفجر بعد ٣ ثوان فحسب من نزع الفتيل، في حين كان تدريبهم وعلمهم كله منصب على القنابل الدفاعية التي تستغرق نحو خمس ثواني لتنفجر.
هذا الفارق "الثانيتين فحسب" جعل القوات تظن أن السلاح فاسد، وهذا كان عيب في من سلمهم السلاح دون إرشادات استخدامه، ومع هذا فقد حدثت مثل هذه الحوادث لجيوش كبرى، ولايمكن أن يوصم عهد الملك فاروق بأنه عهد حارب فيه الجيش بسلاح فاسد.
جرح والدته العميق:
أما والدة الملك فاروق فكانت الملكة نازلي بنت عبد الرحيم باشا صبري، الذي كان وزير للزراعة ومديرا للمنوفية "محافظ بالتسمية الحالية في مصر"، وجدها لامها سليمان باشا الفرنساوي الذي جاء لمصر مع الحملة الفرنسية ولكنه رفض الرحيل ومكث بمصر واشهر اسلامه، وصار أحد أشهر قادة جيش محمد علي.
وبرغم طيب علاقتهما في البداية كأي أم وولدها، فلا ريب أن الملكة نازلي سببت الكثير من الألم النفسي للملك فاروق، ثم كانت سببا في توليد غضب شعبي ضد الملك بسبب تصرفات أمه.
الملكة نازلي تنزل من السيارة لحضور إحدي المناسبات، يبدو على يمين الصورة أحمد حسنين باشا يسير بجوارها، (CC BY-NC-SA 2.0)، via wikimedia commons. |
عاين الملك في البداية العلاقة العاطفية التي انتهت بزواج عقد سرا بينها وبين أحمد حسنين باشا رئيس ديوانه الملكي.
بعد وفاة حسنين باشا في حادث سيارة، تركت الملكة نازلي مصر عام ١٩٤٦، وسافرت إلى الولايات المتحدة الامريكية مع ابنتيها فايقه وفتحية في رحلة الآلام بالنسبة للملك فاروق.
ففي تلك الرحلة ارتبطت شقيقته فتحية مع رياض غالى القبطى المصرى بقصة حب وقامت ضجه كبيرة حينها في مصر.
دعا الملك فاروق رياض غالى إلى اشهار إسلامه ومن ثم يتزوج الأميرة الصغيرة فرفض، ودعا والدته للعودة بشقيقاته من أمريكا فرفضت هي أيضا.
عادت الأميرة فائقة وحدها من أمريكا إلي شقيقها الملك فاروق، في حين بقيت نازلى وفتحية في أمريكا وما لبث الملك فاروق ان حرمهما من كل الألقاب الملكية والثروة أيضاً، ثم أعلنتا تحولهما إلى المسيحية.
فى عام ١٩٧٦ قتل رياض غالى فتحية ثم حاول الانتحار، وفى عام ١٩٧٨ ماتت نازلى في لوس انجلوس بأمريكا عن عمر يناهز ٨٤ عاما.
إنجازات الملك فاروق:
لا يمكن أن يعتبر عهد الملك فاروق عهدا سلبيا بالكامل، فطريقة الأبيض أو الأسود التي ابتليت بها الكثير من التقييمات العربية للحكام لا تعد طريقة صالحة للحكم.
فبرغم كل السلبيات في عهد ملك مصر الأخير، فهناك في سجله أيضا نقاط بيضاء، ففي عهده انضمت مصر إلي عصبة الأمم، ثم كانت عضوا مؤسسا في الأمم المتحدة، كما تأسست في فترة ملكه جامعة الدول العربية.
وفي عهد الملك فاروق أيضا، تم إنشاء كلية الطيران الملكية، كما إلغيت الامتيازات الأجنبية في مصر عام ١٩٣٧ بعدما وقّع اتفاقية (مونتريه)، كما تم إنشاء جامعة فاروق الاول "جامعة الإسكندرية حاليا".
الملك فاروق يصطحب الملك عبد العزيز آل سعود إلي الجامع الأزهر خلال زيارة الملك المؤسس للدولة السعودية لمصر. |
وفي عهد الملك فاروق أيضا، تم انشاء وزارة الشئون الاجتماعية وديوان المراقبة (المعروف حاليًا في مصر بالجهاز المركزي للمحاسبات).
قبل الثورة:
كان تداعي الحوادث العامة والخاصة منها على الملك فاروق شديد الأثر على نفسه، خصوصا أنه كان قد انفصل عن زوجته الأولى "الملكة فريدة"، بعدما تدهورت علاقته الزوجية معها، وإنجابها لثلاث بنات دون أن تلد ذكرا ليكون ولي لعهده، كما انفصلت شقيقته فوزية عن زوجها محمد رضا بهلوي شاه إيران.
كل هذا، جعل الملك يتجه إلي عالم آخر يغوص فيه حتى الأعماق، وتوالت القصص بل والصور للملك فاروق وهو يمضي سهراته مع حاشيته من الإيطاليين، وعلى رأسهم بولي.
كما استشري الفساد في كل شيء تقريبا، وبرغم تعيين "نجيب الهلالي" المشهود له بالنزاهة والذي كان قد بدأ فعليا بمكافحة الفساد، إلا أنه سرعان ما تمت إقالته.
زاد على كل هذا حالة تغيير الحكومات المتلاحقة بشكل سريع بدرجة مذهلة، لدرجة أنه قد تم تشكيل ٤ وزارات في غضون أقل من ستة أشهر، خلال الفترة ما بين ٢٧ يناير حتى ٢٤ يوليو ١٩٥٢، هي
وزارة على ماهر باشا الثالثة (٢٧ يناير – اول مارس ١٩٥٢).
وزارة احمد نجيب الهلالى باشا الاولى (اول مارس – ٢ يوليو ١٩٥٢).
وزارة حسين سرى باشا الخامسة (٢ – ٢٢ يوليو ١٩٥٢).
وزارة احمد نجيب الهلالى باشا الثانية (٢٢ – ٢٤ يوليو ١٩٥٢).
وربما ظهر كل هذا التخبط والانهيار في أوضح صورة له في يوم ٢٦ يناير ١٩٥٢، حينما أحرق المتظاهرون الغاضبون من ما حدث في الإسماعيلية في اليوم السابق من هجوم الجيش البريطاني على قوات الشرطة المصرية، ومقتل وإصابة العشرات هناك، أحرقوا مئات العقارات من محلات تجارية وفنادق ودور سينما ونوادي ومعارض سيارات ومطاعم.
احترقت القاهرة، وظهر الفشل الحكومي في حمايتها، كما ظهر الفشل الحكومي في كبح تطور الأمور، رغم اجتماعها لأربع ساعات متواصلة، وفرض الأحكام العرفية، وفرض حظر التجول من الغسق حتى الفجر واعتقال المئات، واقال الملك فاروق حكومة النحاس.
كان حريق القاهرة إشارة لا تخطئها عين لمدى التدهور الذي وصلت إليه الأحوال في مصر في هذا التوقيت، ومع هذا بقي أمام الملك ست شهور كاملة كان بمقدوره خلالها تغيير الأوضاع، بل وتغيير التاريخ نفسه، فما تحرك الجيش المصري إلا بعدما كانت الأمور قد وصلت إلى القاع فعليا.
حريق القاهرة يناير ١٩٥٢، آثار الدمار على سينما ميترو، (CC BY-NC-SA 2.0) via Flickr. |
كما شكل حريق القاهرة نذير بسوء طالع للملك فاروق ولولي عهده أحمد فؤاد، الذي كان قد رزقه الله به من زوجته الثانية ناريمان.
إذ تزامن يوم الحريق مع يوم الاحتفال الذي نظمه الملك فاروق لضباط الجيش والشرطة ليقدم لهم ابنه وولي عهده، فما ترك الضباط الاحتفال إلا ليخرجوا لمحاولة إنقاذ القاهرة التي كانت قد احترقت بالفعل.
نزول الملك عن العرش:
تحرك الجيش أخيرا ليلة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وسيطرت الوحدات التابعة للضباط الأحرار على معظم القوات المسلحة، تم استدعاء على ماهر لتشكيل الحكومة، ومن ثم تم تكليفه بتسليم إنذار للملك يقضي بنزوله عن العرش.
في هذه اللحظات، إنهار كل شيء، كان كل هم الملك فاروق في هذا الوقت هو سلامته وسلامة أسرته الصغيرة، خصوصا بعدما علم أنه سينزل عن عرشه إلي أبنه الرضيع الأمير أحمد فؤاد (سيلغي النظام الملكي وتقوم الجمهورية في مصر في ١٨ يونيو/ حزيران من العام التالي ١٩٥٣).
لذا لم يجد الملك بدا من التنازل عن العرش، خصوصا بعدما التقي اللواء محمد نجيب مع عدد من ضباط الحركة بقادة سلاح البحرية الذي كان يعتبره فاروق أكثر الأسلحة ولاء له في الجيش.
انتهي هذا الإجتماع بإعلان قادة الأسطول المصري تأييدهم لحركة الجيش، ففقد الملك فاروق بذلك آخر قوة مسلحة كان من الممكن أن يعتمد عليها.
كما بدا السفير الأمريكي في القاهرة، والذي طلب منه الملك التدخل عاجزا عن تقديم أي مساعدة حقيقية تمنع العرش من الانهيار.
وهكذا كتب فاروق تنازله عن العرش والذي جاء كالتالي:
أمر ملكي رقم ٦٥ لسنة ١٩٥٢
نحن فاروق الأول ملك مصر والسودان.
لما كنا نتطلب الخير دائما لأمتنا، ونبتغي سعادتها ورقيها،
ولما كنا نرغب رغبة أكيدة في تجنيب البلاد المصاعب التي تواجهها في هذه الظروف الدقيقة ونزولا على إرادة الشعب.
قررنا النزول عن العرش لولي عهدنا "الأمير أحمد فؤاد" وأصدرنا أمرنا بهذا إلي حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء للعمل بمقتضاه.
صدر بقصر رأس التين في ٤ ذي القعدة سنة ١٣٧١ ه (٢٦ يوليو سنة ١٩٥٢).
فاروق.
الرحيل:
وفي مساء ذات الليلة، ٢٦ يوليو سنة ١٩٥٢، وعلى متن اليخت الملكي المحروسة، سيغادر الملك فاروق مصر في مراسم رحيل رسمية كملك سابق.
الملك فاروق يستعرض حرس الشرف قبل مغادرته الإسكندرية بعد نزوله عن العرش، صورة من الهيئة العامة للاستعلامات في مصر. |
حاول الملك أن يحافظ على صورته حتى اللحظة الأخيرة، حتى أنه نهي بعض ضباط حراسته وعدد من المحيطين به عندما أخذوا في البكاء، وقال لهم نصا: (خليكم رجالة).
لا يمكن لأحد أن يشعر بما أحس به الملك فاروق وهو يري الإسكندرية تبتعد أمام ناظريه وهو يعلم أنه قد فقد ملكه، بل ولن يعود لهذه البلاد مجددا، ولا يمكن لأي كلمات أن تصف ما أحس به في هذه المأساة الإنسانية.
لا يمكن لأحد أن يشعر بما أحس به من خذلان عندما علم أن بولي، ذلك الإيطالي الوضيع المقام الذي صنع منه الملك فاروق شيئا، وقلده المناصب ومنحه الجنسية المصرية، هو من أبلغ السلطات أن الملك المعزول أخذ معه صناديق من مجوهرات وذهب وجعل السفينة تفتش بصورة عبثية، في حين كان فاروق يسأل عنه ليصطحبه معه في رحلته نحو المنفي.
كما لا يمكن لأحد أن يشعر هل أحس بالاطمئنان عليهن ام بالغضب منهن عندما رفضت شقيقاته الثلاثة فوزية وفايزة وفائقة أن يغادرن معه.
سيقابل الملك فاروق على متن المحروسة، قائد الثورة المعلن حينها اللواء محمد نجيب ومعه الضابطين حسين الشافعي وجمال سالم، الذين أخذوا لنش لتوديعه عقب مغادرته فعلا بعد تأخرهم بسبب الزحام من الجماهير التي خرجت لتحيتهم.
سيوصيهم الملك على ما وصفه نصا بأنه (جيش أجداده)، وسيكون حواره مع جمال سالم به بعض التوتر حين أمره بإنزال العصا العسكرية وهو واقف أمامه.
بذلك لن يقابل الملك فاروق، الضابط جمال عبد الناصر وجها لوجه، سيعرف فيما بعد أن ذلك الضابط الذي صافحه ذات يوم إبان معارك حرب فلسطين، كان القائد الفعلي للتنظيم الذي أطاح به وبحكم عائلته من مصر، وسيسمع عنه وسيشاهده في التلفاز من المنفي وهو يؤمم قناة السويس ويحارب ضد العدوان الثلاثي.
سيمضي الملك فاروق ١٣ عاما في المنفي من فرنسا إلي إيطاليا.
وتوفي الملك فاروق عن عمر ٤٥ عاما، في مطعم إيل دو فرانس في روما في ١٨ مارس /آذار من عام ١٩٦٥، بعد تناوله العشاء ولم يتم تشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة الذي ثارت حوله الكثير من الأقاويل، حيث رفضت العائلة العلوية ذلك.
الرئيس جمال عبد الناصر رفض دفن الملك فاروق في مصر في البداية، لكن يبدو أن العاهل السعودي الملك فيصل بن عبد العزيز تدخل بشكل شخصي حينها للسماح بأن يدفن الملك فاروق في مصر.
اشترط الرئيس جمال عبد الناصر بأن لا يدفن في مدافن مسجد الرفاعي، وتم نقل جثمانه إلى مصر في منتصف الليل ودفن في جامع إبراهيم باشا بتكتم شديد.
في عهد الرئيس السادات، سمح بنقله إلى المقبرة الملكية بمسجد الرفاعي في القاهرة ودفن بجانب أبيه الملك فؤاد وجده الخديوي إسماعيل وبقية أعضاء الأسرة العلوية.