نشرت مؤسسة جينز Janes البريطانية ، وهي واحدة من أوثق وأعرق مؤسسات الفكر العسكري في العالم، ويعتمد علي منشوراتها فعليا العديد من قادة الجيوش حول العالم، نشرت تقريرا بعنوان (هل كان أداء سلاح الجو الروسي ضعيفا في حرب أوكرانيا؟).
طائرة روسية أسقطتها أوكرانيا، يعتقد أنها من طراز سو-٣٤ وهي مخصصة لمهام القذف الأرضي، وتستطيع كذلك الاشتباك والقتال في الجو، صورة من وسائل التواصل الاجتماعي. |
التقرير قال أن طائرات الطيران الروسي تشمل مجموعة واسعة من الطائرات، مثل القاذفة ذات الإمكانيات المميزة Su-34 ‘Fullback'. والتي شوهدت وهي تعمل في سماء أوكرانيا.
العقيدة العسكرية:
إن العقيدة العسكرية تملي على أي جيش في حالة هجوم، أن يقوم بتحييد الدفاعات الجوية والقوات الجوية المعادية.
وذلك من أجل أهداف أساسية تتمثل في منح حرية الحركة للقوات الأرضية، وتسهيل باقي عمليات القصف "جو - أرض"، هذا أمر يجب أن يكون جزءا أساسياً في أي خطة غزو.
وبسبب التضارب الكبير في التقارير التي تتحدث عن الخسائر في صفوف الجيشين، فإنه يبدو من المستحيل في الوقت الحالي تحديد الخسائر الجوية بدقة على أي من الجانبين.
برغم هذا، فإنه وبعد مرور أسبوعين كاملين من بداية الحرب، يبدو أن روسيا فشلت حتى الآن في تحقيق التفوق الجوي على القوات الجوية الأوكرانية، ناهيك عن امتلاك السيادة الجوية على أرض المعركة بشكل كامل.
علاوة على ذلك، لم تلعب طائرات سلاح الجو الروسي دورًا حاسمًا في دعم الهجوم البري، وتقديم الدعم النيراني القوي والسريع للقوات المشتبكة على الأرض.
عوامل الفشل الروسي:
تمضي مؤسسة جينز Janes في تقريرها بالقول أن هناك عدة عوامل يمكن أن تلعب دورًا في تفسير ما وصفته بالفشل.
الأول، نظرا لأنه وعلى المستوى الإستراتيجي، لم يكن من المفترض بالنسبة للروس أن تتحول الحرب إلي الشكل الذي هو عليه، ولم يكن يريدون للحرب أن تستمر كل هذه المدة، لذا ففي خططهم لم يكن الاستخدام المكثف للقوة الجوية ضروريًا.
لقد ظهر على السطح أدلة تفيد بأن القادة الروس قللوا وبشكل خطير من درجة ومدى المقاومة الأوكرانية، وافترضوا أن قوتهم ساحقة، وسيستطيعون حسم المعركة سريعا عبر إبرار قواتهم في مطارات ومناطق حول كييف، ثم حصار العاصمة الأوكرانية كييف، وإسقاط حكومة الرئيس زيلينسكي سريعا.
نجح الروس سريعا في الوصول للعاصمة الأوكرانية بل ومنذ اليوم الأول لبدء الحرب تقريبا، وحاصروا خاركيف كذلك، لكنهم فشلوا في دخول أيا من المدينتين حتى اليوم، ونجحت القوات الأوكرانية المدافعة في استخدام الأسلحة التي وصلتها من الدول الغربية وعلى رأسها صواريخ الجيل التالي المضادة للدبابات نلاو السويدية الصنع، وطائرات بيرقدار تي بي 2 التركية.
حطام مروحية روسية من طراز مي-٣٥ أسقطتها الدفاعات الأوكرانية، صورة من وسائل التواصل الاجتماعي. |
كان في الحسابات الروسية -والتي تبين خطأها كذلك- أن المواطنين الأوكرانيين إما سيرحبوا بقواتهم بأذرع مفتوحة، أو على أقل تقدير لن يقاوموا.
لكن، فحتى ولو كانت حسابات الروس تتوقع حدوث مقاومة أوكرانية شرسة، فإن السؤال الآخر هنا هو (إلي أي مدى استعد مخططي القوات الجوية الروسية مسبقًا المدى الكامل للعملية؟).
ذلك لأن الهجمات الجوية عادة ما يظهر تأثيرها بعد وقتًا طويلاً، وتستهلك القوة الجوية المهاجمة كميات كبيرة من الصواريخ والقنابل.
لكن قبل كل هذا، فإذا ما كان قادة سلاح الجو الروسي يرغبون في أن تكون ضرباتهم فعالة، كان عليهم أن يستغرقوا فترة تتراوح من أسابيع إلي شهور قبل بدأ الحرب، لتحديد وجمع وتقييم المعلومات الضرورية عن الأنواع والمواقع المستهدفة، وذلك لتحديد أعداد الضربات التي ستوجه لكل هدف، نوع الطائرة الانسب لضربه، نوع الذخيرة الملائم، موعد واتجاه الهجوم الانسب على كل هدف، إلخ من العوامل الضرورية لتوجيه ضربة جوية ناجحة.
لكن وعندما بدأت الحرب فعلا وجدنا شيئا عكس ذلك.
بلا شك شارك سلاح الجو الروسي في الهجوم على المواقع الأوكرانية، لكن الهجوم الجوي الروسي جاء بتشكيلات محدودة.
أضف إلي ذلك أن الروس استخدموا بدلا من قواتهم الجوية، صواريخ كروز وصواريخ باليستية لاستهداف كل من المطارات والدفاعات الجوية الأوكرانية.. ولقد اثبت تطور المعارك أن هذه الهجمات كانت غير فعالة بالقدر الكافي، واستمرت القوات الجوية الأوكرانية وعناصر دفاعها الجوي في العمل، حتى وإن كان ذلك بقدرات أقل.
إلي جانب ما بدا أنه نقص في التخطيط الكافي لمشاركة القوات الجوية الروسية في المعركة، تفتقد هذه القوات للعنصر الثاني من عناصر الضربات الجوية الفعالة، نتحدث هنا الذخائر الموجهة بدقة التي يشار إليها بالإنجليزية اختصارا (PGMs).
القوات الجوية الروسية لديها كميات محدودة من هذه الأسلحة ، التي تتطلب قدرًا كبيرًا من تدريب الطيارين على استخدامها ليتم توظيفها بنجاح في أرض المعركة.
تاريخيا، فإن ساعات الطيران المتاحة لطياري القوات الجوية الروسية منخفضة للغاية مقارنة بالقوات الجوية الحديثة الأخرى، إذ يقف متوسط ساعات طيران الطيار الروسي عند ١٠ ساعات تقريبًا في الشهر.
محاولات تعويض النقص:
عندما تحولت المعركة إلي الحالة السائلة، وأصبحت الخطط الروسية الأصلية للحرب خارج نطاق ما يجري على الأرض، وبجانب ما أوضحنا من قيود كميات الذخيرة عالية الدقة وأعداد الطيارين أصحاب التدريب والخبرة الواسعة، أصبح لزاما على الروس التصرف وفقا للمتغيرات.
لجأت القوات الجوية الروسية إلي استخدام كميات أكبر من الذخيرة غير الموجهة، وذلك لتعويض نقص الأسلحة الدقيقة، فإذا كانت قنبلة ذكية واحدة تكفي لتدمير هدف، فستحتاج لرقم أكبر بالتأكيد من القنابل غير الموجهة لتدمير ذات الهدف.
ربما كان ذلك السبب في سقوط عدد من طائراتها، بسبب إضطرار الطيارين للتحليق على ارتفاعات منخفضة لإلقاء هذه النوعية من الذخيرة فزاد ذلك من تعرضها لمخاطر نيران منظومات الدفاع الجوي الأوكرانية، بعكس الصواريخ والقنابل الموجهة التي تطلق أصلا من على بعد.
ومع ذلك، يبدو أن حتى هذه الذخيرة غير الموجهة كانت محدودة الاستخدام ، واستعملتها القوات الجوية الروسية بشكل متقطع.
هذا يدعم وجهة نظر أخرى تقول أن القوات الجوية الروسية تتراجع عن عمد في حملتها الجوية، لا أنها تفتقد القدرات الجوية اللازمة، ربما يرغب الروس في الاحتفاظ بالقوة القتالية الجوية في وقت لاحق من العملية.
لكن المثير للقلق من وجهة نظر مؤسسة جينز Janes أن هناك احتمال أن تحصل زيادة كبيرة في الغارات الجوية الروسية في الأيام المقبلة، ويزيد بالتبعية الاستهداف العشوائي بما في ذلك الاستهداف العشوائي داخل المناطق السكنية والمدن، وهي ذات التكتيكات التي استخدمتها القوات الجوية الروسية في سوريا ومن قبلها الشيشان.
استدامة عمل القوات الجوية الروسية:
إذا ما صعدنا النظرة الإستراتيجية، فأننا سنري أنه في حالة إذا ما تم الدفع بمزيد من قدرات الجوية الروسية لدعم الحملة في أوكرانيا ، فسيثور تساؤل حول "استدامة عمل القوات الجوية الروسية على المدى الطويل".
فمن منظور تكتيكات الدعم الجوي القريب للقوات على الأرض، كان من السهل شرح محدودية قدرات القوات الجوية الروسية على تنفيذ هذه المهام.
علاوة على ذلك، يمثل التنسيق بين القوات الجوية والبرية تحديًا تقنيًا وإجرائيًا لأي جيش يريد أن تتمتع قواته البرية بدعم القوات الجوية، ويتطلب بنية اتصالات قوية وهيئة عمليات مدربة جيدًا.
من المستبعد جدًا أن يكون لدى معظم التشكيلات البرية الروسية معدات الاتصال وطلب القوات الجوية بشكل سريع، ومعظم هذه الوحدات لم تتدرب على العمليات البرية / الجوية المشتركة. ومع استخدام كلا الجانبين "الجيشين الروسي والاوكراني" لأنواع معدات وأسلحة أرضية متشابهة، فإن احتمالية النيران الصديقة ستكون كبيرة، بحيث يضرب الطيران الروسي القوات البرية الروسية بظن أنها أوكرانية.
قاذفة روسية طراز سوخوي-٢٤ تقلع من قاعدة اللاذقية الجوية في سوريا، من المتوقع أن يستخدم الروس نفس الطائرة ضد أوكرانيا، Mil.ru، (CC BY 4.0)، via Wikimedia commons. |
وينطبق الشيء نفسه على استخدام الدفاعات الجوية الروسية المتحركة على الأرض مع القوات البرية الروسية لحمايتها من الطيران الأوكراني المكون بالكامل من طائرات روسية أو سوفيتية الصنع مثل المستخدمة لدى القوات الجوية الروسية.
فعلى الرغم من وجود إجراءات تحديد الصديق أو العدو (IFF)، فإن هناك احتمالية عالية لحدوث أخطاء إجرائية أثناء القتال، مما يعرض طائرات الهجوم الأرضي والمقاتلات الروسية لخطر الدفاع الجوي الروسي نفسه.
لا ننسي أيضا أن الدفاع الجوي الأوكراني لايزال يعمل ويقاتل برغم إعلان روسيا في أول أيام الحرب انها قد دمرته بشكل شبه كامل، ومن المرجح ان يواصل الأوكرانيين استخدامه بأسلوب ‘shoot and scoot'، ويعني الضرب ثم إغلاق الرادار وأجهزة منظومة الدفاع الجوي والهرب سريعا من موقع الإطلاق لضمان عدم كشف الموقع من قبل الروس وضربه.
ومع استلام أوكرانيا لمنظومات الدفاع الجوي الغربية المتطورة المحمولة على الكتف (MANPADS) وخصوصا الصواريخ التي يعرفها الروس جيدا وأوقعت بهم خسائر فادحة في طيرانهم في أفغانستان ، نتحدث بالتحديد عن صواريخ ستينغر FIM-92 Stinger، فإن أي طائرة روسية ستقوم بتنفيذ هجوم أرضي، ستكون في بيئة تهديد عالية الخطورة.
مستقبل الحرب الجوية في أوكرانيا:
لايزال معدل استنزاف القوات الجوية الأوكرانية غير معروف حتى الآن ، لكن التقارير غير المؤكدة تشير إلى أن الطيارين الأوكرانيين كانوا ناجحين جزئيًا على الأقل في دور الدفاع الجوي المضاد.
ومع أنه من غير الواضح إلى متى تظل هذه القدرة للقوات الجوية الأوكرانية قادرة على الاستمرار، فمن المرجح أن تؤدي الهجمات الروسية المتجددة من الجو والأرض ضد المطارات الأوكرانية إلى تحييد أي قدرة أو تهديد من سلاح الجو الأوكراني في نهاية المطاف.
أما بالنسبة للأداء الضعيف للقوات الجوية الروسية ، فإن من الخطأ محاولة تفسيره كنتيجة لعامل واحد، فإنما هو في حقيقته نتيجة لتفاعل مجموعة من العوامل،
إن النقص النسبي على الأقل لنشاط القوات الجوية الروسية سواء في الأدوار الهجومية أو الدفاعية فوق مناطق العمليات، هو عامل جمع كل هذه العوامل بداية من القدرات الدفاعية المتبقية في يد الأوكرانيين، سواء من قواتهم الجوية أو دفاعهم الجوي.
بخلاف هذا، هناك مزيج من نقص الخبرة والتدريب المحدود للطيارين، ونقص الذخائر الدقيقة، وسوء التنسيق بين القوات الجوية والبرية.
ومع ذلك ، فمن المرجح أن يكون العامل الأكبر لسوء أداء القوات الجوية الروسية في الحرب ، هو أن الحاجة إلى حملة جوية شاملة لتشكيل بيئة العمليات ودعم القوات البرية، لم يكون أمرا متصورا أبدًا أنه سيكون ضروريا، وبالتالي لم يتم التخطيط لها عندما وضع القادة الروس خططهم.
وبصورة ظاهرية، يعد الأداء الضعيف للقوات الجوية الروسية حتى الآن أخبارًا جيدة للمدافعين وسيتيح للقوات البرية الأوكرانية مستوى من حرية الحركة لم يكن متوقعًا قبل الحرب.
لكن، ففي أثناء محاولة الروس دفع تقدم عملياتهم على الأرض، يمكن توقع تكثيف كبير للنشاط الجوي الروسي، وذلك استنادا لأنه وبالرغم من كل هذه المشاكل، فلدي الروس ميزة تتمثل في امتلاكهم أعداد كبيرة للغاية من الطائرات.
لكن الأسوأ من ذلك، أنه مع استمرار العزم الراسخ للسكان الأوكرانيين في إحباط القوات البرية الروسية والتصدي لها، ومع بدء تصاعد العمليات حول كييف، فإن احتمالية حدوث قصف عشوائي واسع النطاق كما شوهد في حلب في سوريا أمر متوقع للغاية.
في النهاية، ومهما حدث ، فقد كشف الغزو الروسي لأوكرانيا بشكل كبير عن مشاكل كبيرة تواجه القوات الجوية الروسية.
التقرير من إعداد نائب المارشال الجوي شون كوربيت (متقاعد) الذي تقاعد من سلاح الجو الملكي في سبتمبر ٢٠١٨ بعد ٣٠ عامًا من العمل كضابط مخابرات محترف.
ترجمة ((المعرفة للدراسات)).