بعدما تسببت الحرب بين روسيا وأوكرانيا في ارتفاع جنوني في أسعار القمح والحبوب.. هل ينقذ القمح الأسترالي العالم من أزمة غذاء كارثية

قد تبدو الحرب بين روسيا وأوكرانيا بعيدة جغرافيا بعض الشيء عن الشرق الأوسط وأفريقيا، لكن عواقبها أصبحت محسوسة هناك أيضًا.

يعد القمح من السلع الإستراتيجية، وقد تسببت الحرب بين روسيا وأوكرانيا في ارتفاع جنوني في أسعاره عالميا، صورة لحقل قمح في روسيا، Maxim_Videonika / 2 Bilder، Pixabay License, Freie kommerzielle Nutzung. 


إذ سجلت أسعار القمح ارتفاعات قياسية حيث أوقفت الحرب الصادرات من أوكرانيا وروسيا، أهم دولتين في سوق مصدري القمح والحبوب عالميا، ما نتج عنه وصول أسعار القمح لأعلى مستوياتها على الإطلاق.

توقف إمدادات القمح:

الناس جميعا يريدون القمح، منه ينتج الكثير من الطعام، المكرونة والمعجنات وغيرها، ولكن قبل كل هذا "الخبز" ملك الطعام على الإطلاق.

بشر يعيشون في الكثير من الدول البعيدين للغاية عن روسيا وأوكرانيا ، وربما لا يعلم الكثيرون منهم موقع هاتين الدولتين على الخريطة، يشاهدون في التلفاز مشاهد الحرب الدائرة هناك.

حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، لكنهم مطالبون بدفع جزء كبير من فاتورتها الثقيلة، بعدما سددوا فاتورة سابقة كانت بعنوان فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، لم يكن لهم أيضا دخلا بها، ولا يزال الناس لا يعرفون أكان السبب فيه خفاش ام النمل الحرشفي ام حيوان ضال آخر.

إذ يهدد توقف إمدادات القمح من روسيا وأوكرانيا بإطلاق العنان لتتحول أسعار الغذاء عالميا لـ "الجحيم على الأرض".

ماذا يفعل الناس العاديين والطبقات الفقيرة والضعيفة في هذه الدول وهم يجدوا أن الجزء الذي كانوا يخصصونهم من دخولهم للإنفاق على السلع الأساسية قد قفز بشكل جنوني؟.

فأوكرانيا وروسيا توصفان بأنهما (سلة الخبز لأوروبا)، كما تعتبران المصدر الذي تعتمد عليه الكثير من الدول في تلبية احتياجاتها من القمح، وبشكل عام يمثل إنتاج أوكرانيا و روسيا ربع تجارة القمح السنوية في العالم، بينما ترفع صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية المتخصصة في الاقتصاد النسبة إلي ٣٠٪ من حجم تجارة القمح عالميا.

بخلاف القمح، تصدر الدولتان نصف منتجات عباد الشمس من زيوت وخلافه، كما تبيع أوكرانيا كميات كبيرة من الذرة.

لذا فمنذ بداية التوترات بين البلدين منذ شهور، وحشد روسيا لقواتها على الحدود الأوكرانية، كانت أسعار القمح ترتفع بالفعل.

وتتفاقم المشكلة لأن الحرب التي دخلت يومها السابع عشر، لا تلوح في الأفق بشائر نهايتها قريبا، ومع مرور الوقت تتناقص المخزونات والاحتياطات التي تملكها الدول من القمح. 

مجموعة من الجثث المغطاة في شوارع مدينة إربين الأوكرانية، قيل أنهم سقطوا ضحايا لقصف روسي، Diego Herrera Carcedo—AP، manhhai، (CC BY 2.0)،via Flickr. 


وبينما تعتبر (بورصة شيكاغو) أحد أهم البورصات التي يتحدد من خلالها أسعار القمح في العالم، فإن الأخبار القادمة منها ليست جيدة على الإطلاق، إذ وصل سعر القمح هناك لأعلى مستوى له على الإطلاق، محققا قفزة بلغت ٥٠٪ تقريبا منذ إندلاع الحرب، إنها أكبر نسبة مئوية في سعر القمح تحدث على مدار ٦٠ سنة.

لدينا مثال آخر وهي العقود الآجلة للقمح (العقد الآجل هو عقد يلزم المشتري بشراء سلعة معينة في تاريخ مستقبلي بسعر يحدد عند توقيع العقد)، التي تبرم في بورصة يورونكست بباريس، الشهيرة بعقد صفقات القمح الدولية فيها، هذه العقود قفزت بنسبة ١٤٪ لتصل لأعلى مستوياتها على الإطلاق، متفوقة على أسعار القمح التي ارتفعت بشكل كبير مع إندلاع ما سمي بثورات الربيع العربي قبل أكثر من عقد من الآن.

إذ سجل القمح الأوروبي المطحون في باريس رقماً قياسياً قدره ٤٠٦ يورو للطن، بينما كان سعر بوشل القمح ١٣،٤ دولار أمريكي في بورصة شيكاغو، (البوشل هو إداة قياس بريطانية وأمريكية للأحجام الجافة، وتستعمل لقياس السلع الأساسية، غالبا في الزراعة. وبوشل القمح يساوي ٢٧،٢١٦ كيلو جرام). 

إننا أمام حرب قطعت ما بين ٢٥ : ٣٠ ٪ من صادرات القمح من الوصول للسوق العالمي، وبالتالي فمن الطبيعي أن تحدث هذه الارتفاعات المذهلة في السعر نتيجة لنقص المعروض، خصوصا إذا ما علمنا أن روسيا وأوكرانيا كانت لديهما في الأصل كميات من محصول العام الماضي تم شرائها بالفعل، ولكن لم يكن قد تم شحنها إلي الدول التي اشترتها.

مجلة (ذي إيكونوميست) البريطانية قارنت ما يحدث حاليا، بالعام ١٩١٤، حينما دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب العالمية الأولى، وأغلقت مضيق الدردنيل، وهو الطريق الوحيد أمام القمح الروسي ليتم تصديره إلى بريطانيا وفرنسا.

كان العثمانيين حينها يريدون خنق الدول الثلاثة التي كانت تقاتل في التحالف المضاد لها في تلك الحرب (روسيا بان تمنعها من تصدير القمح وتحرمها من عائداته، وبريطانيا وفرنسا بأن تسدد ضربة قاصمة للأمن الغذائي فيهما وتتسبب في ارتفاع الأسعار بصورة جنونية).

وما أشبه الليلة بالبارحة، ففي ذلك الوقت كانت روسيا مسؤولة عن تصدير ٢٠٪ من القمح المباع في العالم، فعندما فقد السوق هذه الكمية بين عشية وضحاها، تسبب ذلك في ارتفاع أسعار القمح في بورصة شيكاغو بنسبة ٤٥٪.

تحذيرات من أزمة غذاء عالمية:

العديد من وكالات الإغاثة حذرت من "تأثير مضاعف" لتوقف إمدادات القمح والحبوب من روسيا وأوكرانيا على أسعار القمح في العديد من البلدان التي تواجه بالفعل التضخم وانعدام الأمن الغذائي وصراعات، ولا تحتمل المزيد من المشاكل.

بجانب القمح، ارتفعت العقود الآجلة للذرة وفول الصويا بنسبة ٢٦٪، ما يعني أن الأزمة طالت الحبوب كلها، وليس القمح فحسب.

دولة مثل اليمن التي تعاني أصلا من حرب جعلتها تعيش ثاني اسوء أزمة غذاء في العالم حاليا، تعتمد أصلا على واردات القمح من روسيا وأوكرانيا.. فماذا يكون الوضع الآن في الدولة التي يعاني فيها ١٣،٥ مليون شخص من الجوع بحسب (الشبكة العالمية لمكافحة الأزمات الغذائية).

لدينا دولة مثل مصر، والتي تنفذ حكومتها العديد من المشروعات الطموحة خلال السنوات الأخيرة، لكن الحرب جاءت أولا على عكس مايشتهي القطاع السياحي فيها والذي يشكل السياح القادمين من روسيا وأوكرانيا رافدا هاما له. بجانب ذلك فلا يوجد من سيتأثر بارتفاع سعر القمح مثل مصر، ببساطة لأن مصر هي أكبر مستورد للقمح في العالم، وتستورد ٧٠٪ من استهلاكها من القمح من روسيا وأوكرانيا. 

تزرع مصر القمح منذ ما يزيد عن سبعة آلاف عام، ووصفها القرآن الكريم بأنها خزائن الأرض عندما قص علينا ما حدث فيها بعهد نبي ﷲ "يوسف" والذي مرت على مصر في عصره ظروف مشابهة بنقص القمح لسبع سنوات بعد سبع سنوات من الوفرة، Amr hamed، (CC BY-SA 4.0)، via Wikimedia commons. 


في كينيا، والتي تعتمد بشكل كبير على إستيراد القمح من روسيا وأوكرانيا ، انفجرت أسعار الحبوب بالفعل، وبحسب تقرير لمجلة (دير شبيغل) الألمانية الشهيرة، فإن أصحاب المطاحن في كينيا لا يملكون المال الكافي لمواجهة هذا الارتفاع ما قد ينذر بأزمة كبرى في البلد الأفريقية.

نفس الشيء تقريبا حدث في تونس، والتي نقلت صحيفة "الغارديان" البريطانية منها أن الناس يضطرون للاقتراض حتى يستطيعوا إكمال الشهر.

لبنان، التي تهزها الاضطرابات الاقتصادية هزا، ويعاني الناس فيها أصلا من عدم وجود الألبان للأطفال، والأدوية للمرضي، تواجه الكثير من علامات الشك مع استيرادها ٨٠٪ من قمحها من أوكرانيا. 

رئيس برنامج الغذاء العالمي ، ديفيد بيسلي ، حذر من أن الصراع في أوكرانيا يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء العالمية بشكل سيسبب تأثير كارثي على أفقر سكان العالم.

تاريخيا كان نقص الخبز هو السبب في إشعال ثورات واحتجاجات كبرى، أعمال الشغب التي بدأت بها الثورة الفرنسية ذاتها كانت بسبب نقص القمح. وما يثير مخاوف حاليا أن يحدث هذا على نطاق عالمي، عندما نصل إلي يوم قد يعجز فيه مليارات الأشخاص عن شراء الطعام.

هناك مليار من البشر ينامون جائعين كل ليلة حول العالم، لكن أزمة كتلك قد تجعلهم يعيشون طوال الوقت في حالة جوع، يسقطون فريسة للأمراض، بل وينتهي بهم الحال للموت جوعا. 

الحل الأسترالي:

كثير من الأنظار تتجه حاليا نحو عملاق آخر من عمالقة زراعة القمح، إلي أستراليا الدولة بحجم قارة، لكن هناك العديد من المشكلات تتعلق بالقمح الأسترالي، من أهمها ارتفاع السعر، وسلاسل التوريد.

وسلاسل التوريد Supply Chain ببساطة هي العمليات التي تتم بهدف توصيل المنتج من المصنع أو المزرعة إلي المستهلك، وتبدأ سلاسل التوريد بداية من نقل المواد الخام وجميع مكونات المنتج للمصنع أو البذور للحقول، ومن ثم تصنيع المنتج أو زراعته، وفي النهاية نقله للسوق حيث المستهلكين.

مثال شركة تنتج سيارة فهي تحتاج للصاج والحديد والالكترونيات والجلد والمصابيح.. إلخ، كل هذه الأشياء تأتي إليها من موردين، ثم تنقلها لمصانعها حيث تنتج السيارة، ومن ثم يتولي موزعين توزيعها في جميع أنحاء العالم، وهو مثال صالح للتطبيق علي كل شيء من الأبرة حتى الصاروخ، وعلى القمح أيضًا بكل تأكيد.

بخلاف هذا، ارتفعت أسعار الأسمدة مع اندلاع الحرب بشكل صاروخي، هذا أيضا سيزيد من سعر القمح الأسترالي في نهاية المطاف، كما لا ينبغي هنا غض النظر عن أن أستراليا نفسها قد لا تملك زراعة الكميات المطلوبة بسبب تأثير تغير المناخ على كميات الأمطار التي تتساقط عليها سنويا.

تمتد مزارع القمح في أستراليا على مساحات شاسعة، Wheat initiative، James Edwards in Booleroo Centre, South Australia 5482، (CC BY-SA 2.0)،via Flickr. 


لكن برغم كل هذه العقبات فإن أستراليا والمزارعين فيها يريدون بحق أن يدخلوا المنافسة لتعويض كميات القمح الهائلة التي خسرها السوق العالمي مع إندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا.

بحسب (المكتب الأسترالي للاقتصاد والعلوم الزراعية والموارد) فمن المتوقع أن يأتي محصول القمح الأسترالي هذا العام قياسيًا، ليصل إلي ٣٦،٣ مليون طن.

إنها أخبار جيدة للأستراليين، فمحصول العام السابق الذي كان قياسيًا أيضًا، سيزيد عليه محصول هذا العام بنسبة ٥٪ ليكون أكبر محصول قمح في تاريخ أستراليا... ساعد على ذلك زيادة معدلات هطول الأمطار هذا العام.

أستراليا، والتي تملك من ١٠ : ١٥٪ من تجارة القمح عالميا، هي أيضًا واحدة من الدول الرئيسية المنتجة للحبوب التي لم تتأثر بجفاف العام الماضي الذي حدث في نصف الكرة الشمالي.

لكن وكأن الصورة تحتاج إلي مزيد من القتامة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، وهي ثاني أكبر منتج قمح في العالم، من المتوقع أن ينخفض إنتاج هذا العام بنسبة ١٠٪ مقارنة بمحصول العام الماضي.

لا يختلف الحال كثيرا في المنتج الثالث للقمح عالميا، كندا، التي تراجعت عائداتها من القمح بنسبة ضخمة وصلت إلي ٣٨،٥٪ في عام ٢٠٢١ بحسب الاحصائيات الكندية.

لكن الوضع يتحسن قليلا في الاتحاد الأوروبي الذي يتوقع زيادة إنتاج الدول الأعضاء فيه من القمح بنسبة ٩٪، ومع هذا السوق المتذبذب، ينظر العالم إلي القمح الأسترالي وكأنه مبعوث العناية الإلهية الذي سيحل كل هذه الصعوبات.

ولعل العناية الإلهية بالفعل قد تدخلت لجعل محصول أستراليا وفيرا هذا العام بالأخص، في ويت بيلت Wheatbelt الواقع غرب أستراليا ، وهو سهل خصب شاسع في جنوب الولاية بحجم دولة تونس، حصد المزارعون محصولا لا يتكرر إلا مرة واحدة كل عشرات السنين، فبينما يرضي المزارع هناك إذا ما كان محصول هكتار الأرض المزروعة بالقمح (الهكتار حوالى ٢،٥ فدان) يصل ل٢ طن، لكن هذا العام بلغ الإنتاج ما يصل لنحو ثلاثة أضعاف هذه الكمية.

إذن فكميات القمح وفيرة في أستراليا هذا العام.. إنها لن تسد كامل الناقص العالمي بغياب حصة روسيا وأوكرانيا.. لكن على الأقل ستقلل العجز، ولابد أن الكثير من الدول ستسسابق على شراء القمح الذي نما بأمر ربه في أستراليا.

لكن إذا ما أراد الأستراليين توسيع محصول العام القادم وزيادة تصديره لتعزيز أرباحهم من الحرب الروسية-الأوكرانية ، وكما قيل أن مصائب قوم عند قوم فوائد، فعليهم أولا التغلب على التحديات اللوجستية في نقل المنتجات الزراعية إلى الشاحنات والقطارات. إن التعاونيات الزراعية في غرب أستراليا ، تستثمر ما يقرب من مليار دولار في البنية التحتية الجديدة والمحدثة. لكن هناك حاجة إلى استثمارات أكبر بكثير لتحديث الشبكات في مناطق أخرى منتجة للقمح في أستراليا حتى تستطيع تصدير هذه الكميات بكفاءة وسرعة. 

القانون في الخليج
القانون في الخليج
القانون في الخليج هي منصة إلكترونية صنعت خصيصا للتوفير المعلومات القانونية الدقيقة والموثوقة لكافة العاملين بالقانون وحتى الأفراد العاديين في دول الخليج العربي. إذا كنت إستاذا في القانون، قاضيا، محاميا، أو حتى قارئ عادي فستوفر لك القانون في الخليج المعلومة القانونية التي تحتاجها وفورا.
تعليقات