نقترب اليوم من مرور عقد كامل على أول الهجمات الإرهابية التي استهدفت قوات الجيش المصري في سيناء ، وبالتحديد في صيف العام ٢٠١٢، حينما تم استهداف كتيبة لقوات حرس الحدود، في وقت تناول جنودها لطعام الإفطار بعد يوم صيام شاق في شهر رمضان المقدس لدي المسلمين.
مجموعة من أفراد الجيش المصري في سيناء. |
منذ ذلك الهجوم، والذي ارتقي فيه ١٦ من ضباط وجنود الجيش المصري، بدأ الجيش المصري ومعه قبائل سيناء بالتعاون معا في معركة سال فيها دماء أطهر شباب هذا البلد العريق من أجل دحر تنظيمات الإرهابيين، أحفاد الإرهابي الأول ذو الخويصرة التميمي الذي بذر بذرة التطرف الأولى منذ عهد النبي صلى ﷲ عليه وسلم.
في ذات الوقت، وبالتكامل مع العمليات العسكرية، ركزت إدارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على زيادة جهودها في مجال التنمية، وشرعت في العديد من المشاريع الكبرى لتطوير شبه جزيرة سيناء وتحسين مستوى معيشة أبنائها.
حرب في سيناء:
شبه الجزيرة المصرية شهدت حربا حقيقية، إذ تلقت التنظيمات الإرهابية الكثير من الدعم الدولى في صورة تسليح وتمويل، وصولا إلى إرسال مقاتلين من الإرهابيين ذوي الخبرة الذين عركتهم معارك خاضوها في دول مثل ليبيا وسوريا والعراق، تجمعوا جميعا بهدف السيطرة ولو على مساحة صغيرة من أرض سيناء ورفع علمهم عليها ولو لبضع دقائق يأخذون فيها بعض الصور لبثها وإذاعتها عبر منصاتهم الإعلامية، وهو الأمر الذي فشلوا فيه تماما على مدار عشر سنوات.
كما حاول الإرهابيين استغلال حالة انجذاب المتطرفين التي خلقها الانهيار السريع للجيش وقوات الأمن العراقية امام تنظيم داعش الذي صعد صعودا غريبا لدرجة إعلان نفسه كدولة، في ايام نحسات من عام ٢٠١٤، كاد الإرهابيين فيها ان يدخلوا بغداد عاصمة خلافة العباسيين ذات يوم.
نتج عن توسع داعش المذهل والسريع في سوريا والعراق، جذبة لاعداد كبيرة من الإرهابيين من جميع انحاء العالم، وجاء الكثيرون منهم حتى من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
في سيناء، حاول تنظيم إرهابي سمي نفسه (أنصار بيت المقدس) استغلال حالة المد الإرهابية تلك، فاعلن في تشرين الثاني / نوفمبر عام ٢٠١٤ ، ولاءه (البيعة كما يطلقون عليها) لزعيم تنظيم داعش الإرهابي "أبو بكر البغدادي".
في ذات الوقت، استفادت التنظيمات الإرهابية وتعاونت مع عصابات التهريب التي كانت تنشط بين سيناء وقطاع غزة الفلسطيني، حيث استخدمت الإنفاق التي كانت محفورة تحت الأرض في تهريب الأسلحة والأموال والإرهابيين وخصوصا من ذوي الخبرة القادمين من سوريا والعراق، والذين تم بعثهم لزيادة القدرة القتالية للإرهابيين في سيناء، كما وصلهم دعم عن طريق ليبيا التي تواجه سنوات تفكك منذ اغتيال الزعيم الليبي السابق معمر القذافي الذي ظل يحكم بلاده الغنية بالنفط لأكثر من أربعة عقود.
كان على سلاح المهندسين في الجيش المصري مهمة كبيرة تتمثل في اكتشاف وتدمير او إغراق تلك الإنفاق والتي مثلت لفترات طويلة شاريين الامداد والدعم للإرهابيين.
ملحمة في الشيخ زويد:
في رمضان أيضا، وكأن خوارج هذا العصر يركزون على استهداف المسلمين في أوقاتهم المقدسة والمرتبطة اساسا بسمو الروح، والتخلى عن احتياجات البدن من طعام وشراب وغيره، في رمضان كانت واحدة من أقوى وأشرس محاولات الإرهابيين للسيطرة على قطعة من أرض سيناء.
كان أحد الاختبارات الكبرى للجيش المصري هو ما واجهه في صباح الاول من تموز / يوليو عام ٢٠١٥.
حاول تنظيم داعش في ذلك اليوم تكرار ما صنعه في سوريا والعراق، وهو (السيطرة على الأرض).. والوقوف والثبات عليها، وتصوير ذلك وبثه إعلاميا، حيث امتلك التنظيم في صعوده الملئ بعلامات الاستفهام والتعجب، كوادر عالية الاحتراف متخصصة في إنتاج أفلام دعايا للإرهاب لأول مرة في التاريخ، حتى أن الكثيرون قارنوا جودتها بجودة أفلام هوليوود.
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يصافح قائد إحدى النقاط في الشيخ زويد عقب المعركة بساعات قليلة. |
ففي ١ يوليو / تموز ٢٠١٥، ومن مختلف الاتجاهات، شن مئات من مسلحو تنظيم (بيت المقدس) الإرهابي التابع لداعش هجوما متزامنا بهدف السيطرة على مدينة الشيخ زويد.
الصمود الاسطوري للوحدات القليلة العدد التابعة للجيش المصري عند الشيخ زويد، وخصوصا عند (كمين أبو رفاعي)، ساعده التعزيزات والدعم التي دفعت بها قيادة الجيش المصري، كما ساهم سلاح الجو المصري وخصوصا مروحيات الأباتشي في المعركة بكفاءة شديدة.
عقب المعركة مباشرة، وفي الرابع من يوليو ٢٠١٥. كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية يزور مواقع المعركة ويلتقي بالرجال الذين قاتلوا بالنار والدم.
احتلت معركة الشيخ زويد أهمية كبرى ومفصلية في حرب مصر ضد الإرهاب في شبه جزيرة سيناء، وقد وصفها الرئيس المصري فيما بعد بقوله (لقد كانت معركة فاصلة، وكان الهدف منها هو إعلان ولاية سيناء، وتم الهجوم على جميع الكمائن في وقت واحد تقريبا، وقد ظهرت الحقيقة عندما أعلنا عن حجم الخسائر وحجم القتلى والتدمير الذي تم في هذه القوات.. وإنني سأكون مهذبا في تعبيراتي عندما أقول أنه وفي تلك المنطقة خصوصا كانت رائحة جثث قتلى الإرهابيين صعبة، وكانت الشيخ زويد معركة فاصلة ونحن مستمرون حتى ننهي هذه المسألة تماما).
في الشيخ زويد تم قتل أكثر من ١٠٠ إرهابي، ودمرت ٢٠ من مركباتهم، بينما استشهد ١٧ من رجال الجيش المصري منهم ٤ ضباط، وإصيب ١٣ آخرين. وقد نفذ الجيش المصري هجوما مضادا على فلول الإرهابيين المتجمعين بعد فرارهم من المعركة وقتل ١٧ آخرين.
وبرز في معركة الشيخ زويد كذلك اسم (محمد هارون) وهو أحد أبرز وأقوي ضباط الجيش المصري في تلك الحرب، وكانت جهوده في معركة الشيخ زويد من أحد أهم أسباب الصمود الأسطوري عند الشيخ زويد، وقد نال العقيد هارون الشهادة فيما بعد أيضا في سيناء.
الكتيبة ١٠٣:
كانت الكتيبة ١٠٣ صاعقة، من العلامات البارزة في الحرب ضد الإرهاب في سيناء، بل واكتسبت زخما واسعا تخطي سيناء ومصر بكاملها.
فشخصية قائدها الاستثنائي (أحمد منسي) أصبحت محورا لضرب الأمثال والقدوة الحسنة لجيل صاعد من الشباب والفتيان المصريين والعرب.
ففي الساعات الاولى من صباح السابع من يوليو عام ٢٠١٧، شن الإرهابيين هجوما عنيفا ضد موقع من مواقع الكتيبة ١٠٣ صاعقة في منطقة البرث، مستهدفين أساسا قتل قائد الكتيبة أحمد منسي، والاستيلاء على الارتكاز الأمني، ورفع علم التنظيم الإرهابي عليه، وأخذ أسرى ومصابين.
كان نشاط الكتيبة ١٠٣ صاعقة تحت قيادة المقدم منسي الذي تلقي دورات راقية داخل وخارج مصر، مزعجا بشدة للتنظيمات الإرهابية في سيناء، حتى أنهم اطلقوا عليه لقب (الطاووس)، وذلك لما عرفوه عنه من أنه لا يهابهم.
قام بالتخطيط لهذا الهجوم على نقطة كمين البرث، وشارك فيه، اثنان من ضباط الشرطة المصرية المنشقين واللذان كانا قد حصلا على دوات متقدمة في العمليات الخاصة، وهما (حنفي جمال) و (خيرت السبكي). -تم قتلهما فيما بعد في غارة نفذتها طائرات سلاح الجو المصري-.
الشهيد أحمد منسي، قائد الكتيبة ١٠٣ صاعقة، خاض العديد من البطولات في معارك الجيش المصري ضد الإرهابيين في سيناء، وقدم لبلاده أسطورة حية حتى في لحظات استشهاده دفاعا عن مقره. |
الهجوم الذي بدأ في ساعات الصباح الأولى، استخدم فيه عدد من السيارات المفخخة التي هشمت واجهة مبني كمين البرث، ودمرت عدد من المركبات المسلحة بالرشاشات ذات العيار الكبير، ثم تلاه موجات من الإرهابيين المسلحين بالار بي جي وأسلحة القنص ومدافع الهاون، والرشاشات مختلفة الأعيرة.
برغم عنف ووحشية الهجوم الإرهابي على كمين البرث، والذي نتج عنه استشهاد ٢٣ فرد من قوة الكمين على رأسهم قائدهم أحمد منسي، وإصابة ٣٢ آخرين، إلا أن الإرهابيين لم يستطيعوا اقتحام مقر الكمين، ولو للحظة واحدة.
وكما في الحروب دائما، كانت بطولات الكتيبة ١٠٣ صاعقة في الثبات والتمسك بالموقع، محفزا لعقول الكتاب والمؤلفين، الذين يضعون في مثل هذه الظروف بعض أبرز الإبداعات الأدبية في التاريخ الإنساني، فظهرت في البداية أغنية حماسية تتغني ببطولات الكتيبة وهي (قالوا ايه) والتي كتبها محمد وديع، وهو ضابط سابق في الجيش المصري.
ثم ظهر الجزء الأول من مسلسل (الإختيار) والذي حقق نجاحا منقطع النظير داخل مصر وخارجها في الدول العربية، وتناول قصص بطولات الشهيد أحمد منسي والكتيبة ١٠٣ صاعقة، مع قصة خيانة ضابطين آخرين هما (هشام عشماوي) و (عماد عبد الحميد).
على الأرض، اعطي ما حدث في كمين البرث، دافعا جديدا للمقاتلين المشاركين في (العملية الشاملة سيناء ٢٠١٨) والتي أنطلقت في فبراير ٢٠١٨، بعد بضع شهور من ملحمة البرث.
تعاون أهل سيناء:
في الحرب ضد الإرهاب في سيناء، مثل تعاون البدو وقبائل سيناء للجيش والسلطات المصرية، عاملا حاسما فيما تحقق.
كبرى قبائل سيناء (الترابين، السواركة، الرميلات،.. وغيرهم). قدموا دعما هاما للجيش المصري، بالإبلاغ عن أماكن اختباء الإرهابيين، بل وتطوعت أعداد منهم للعمل كمرشدين وادلة في صحراء سيناء التي يعرفون دروبها كما يعرفون كفوف أيديهم.
لم تكن مواقف قبائل سيناء بالمستغربة أو الجديدة، هي ذاتها القبائل التي دعمت الجيش في حرب عام ١٩٥٦ (العدوان الثلاثي)، وساعدت الكثير من ابنائه في الانسحاب خلال حرب يونيو ١٩٦٧، كما وفروا دعما هائلا لعناصر المخابرات والاستطلاع والقوات من مختلف الأسلحة التي دخلت سيناء خلال معارك حرب الاستنزاف، وختمت كل ذلك بمواقفا البطولية في حرب أكتوبر ١٩٧٣.
دفع تعاون قبائل وأهل سيناء مع الجيش المصري، دفع الجماعات الإرهابية لشن هجمات خسيسة ضد قبائل سيناء، كان أكثرها خسة ودموية ، الهجوم الذي وقع ضد المصليين في مسجد قرية الروضة في منطقة بئر العبد أثناء اداؤهم لصلاة الجمعة.
ربما كان ذلك الهجوم هو الأول الذي يستهدف مصليين في مسجد في تاريخ مصر، ما أثار المصريين جميعهم، وخصوصا أهل سيناء الذين امتلئوا بالغضب، لقد سالت دماء أكثر من ٣٠٠ مصلى في بيت من بيوت ﷲ، كان بعضهم من الأطفال، وجرح العشرات.
اثبت الهجوم على مسجد الروضة الكثير من الأشياء، من أهمها أن الإرهابيين احتفظوا بمنهج أستاذهم الأول حرقوص بن زهير (ذو الخويصرة التميمي)، الذي كان يقتل المسلمين دون مراعاة لأي شيء.
الشيء الثاني كان إثبات لوطأة تعاون المصريين من اهل سيناء وقبائلها مع جيش بلادهم على تلك الجماعات للحد الذي افقدها الصواب فشنت هجوما من ذلك النوع.
الشيء الثالث، ساعد ذلك الهجوم بجانب حوادث قطع الرقاب لعدد من شيوخ سيناء وكبار السن، في خلق ثأر لدى أهالي سيناء عند الإرهابيين، ما جعلهم يزيدون من دعمهم للجيش، معلنين الحرب على الإرهابيين.
فوائد دائمة:
عندما كان أبطال الجيش المصري من جنود وضباط صف وضباط يقاتلون معارك الزود عن الدين ضد الخوارج والإرهابيين ومعارك الشرف حماية لأهلهم في سيناء وفي الوادي، كان هدفهم الرئيسي هو القضاء على تلك الجماعات.
لكن عشر سنوات من القتال خلقت فوائد أخرى دائمة، بخلاف القضاء على الإرهابيين وأنشطتهم في سيناء.
لقد عدلت مصر الملحق الأمني لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل الموقعة عام ١٩٧٩، في ٨ نوفمبر ٢٠٢١.
بموجب ذلك التعديل، رفعت قوات حرس الحدود المصرية قواتها من حيث العدد و المعدات في منطقة رفح شمال سيناء.
كما دفعت مصر بسلاحها الجوي بكثافة فوق سيناء، وزار الرئيس السيسي قاعدة جوية في سيناء في شهر مارس عام ٢٠١٨.
بتلك الخطوات فرضت مصر واقعا جديدا في سيناء، واستفادت بتواجدها العسكري هناك الذي أصبح بموجب التعديل الجديد للاتفاقية قانونيا دائما، ولا تستطيع إسرائيل الاعتراض عليه فيما بعد، كما عرفت أجيال كاملة من ضباط الجيش المصري طبيعة سيناء الجغرافية بشكل عملي.
في أيلول / سبتمبر ٢٠٢١، استسلم القيادي "أبو حمزة القاضي" مفتي تنظيم داعش الإرهابي في سيناء، كدليل على تفكك التنظيم وهوانه.
في حين ستواصل قوات الجيش والشرطة المصرية جهودها المدعومة والمباركة من أهالى سيناء وقبائلها، حتى تنتهي من تطهير سيناء من آخر إرهابي بها. في ذات الوقت تواصل الحكومة المصرية مشاريع واعدة لتعمير سيناء ، ومنها مشاريع سكنية ومشاريع أنفاق تمر تحت قناة السويس لتسهيل الحركة والتجارة بين سيناء والوادي، ومشاريع استصلاح للأراضي الزراعية.