انطلق الروس بين ١٠ : ١٦ سبتمبر، يجرون تدريبهم الإستراتيجي العملياتي الأكبر نطاقا إنه زاباد Zapad ٢٠٢١.
رتل من دبابات تي-٩٠ الروسية المتطورة، عدسة: Vitaliy Ragulin، licensed under the Creative Commons Attribution-Share Alike 3.0 Unported license, Wikimedia Commons. |
لينطلق معهم الخبراء والمحللين العسكريين شرقا وغربا يتابعون باهتمام بالغ ماذا يحدث فيه، بل وانطلق مراقبو جيوش دول حلف شمال الأطلسي القريبون من الحدود مع روسيا يتطلعون لدس أنوفهم لجمع المعلومات عن كل كبيرة وصغيرة من مجريات التدريب.
أهمية التدريب:
بجانب كونه تدريبا عسكريا هائل الحجم، إلا أن مدولالات زاباد Zapad ٢٠٢١ أوسع من قصرها علي الأهمية العسكرية.
أكدت مناورات هذا العام والتي جرت بين الأسلحة المشتركة، تزايد اعتماد بيلاروسيا علي روسيا لتأمين الردع ضد أي معارضة داخلية لنظام الحكم، أو أي عمل غربي قد تقوم به الولايات المتحدة أو الناتو عموما، وبالعكس فلقد زادت مخاوف أوكرانيا من الروس.
فبيلا روسيا الدولة الصغيرة الحجم، والحليفة الوثيقة لروسيا تخوض هذه التدريبات مع الروس باسم زاباد Zapad وترجمتها من اللغة الروسية تعني "الغرب"، إن اسم التدريب وحده يشير إلي الاتجاه الذي يأتي منه الخطر علي روسيا وبيلا روسيا في نفس الوقت، إنه اتجاه حلف الناتو القابع علي حدودهما.
التدريب ذاته والذي يجري كل أربع سنوات مصمم لغرض رئيسي وهو اختبار قدرات القوة العسكرية للبلدين في تحقيق الدفاع ضد اي اعتداء يقع عليهما معا أو ضد دولة منهما بمفردها... وبوضوح يفترض التدريب أن العدو هو الولايات المتحدة وحلفائها من أعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
جرت أهم مراحل المناورات في بيلاروسيا، وفي كالينينغراد، رأس حربة موسكو في القلب الأوروبي، إنها لمن لا يعلم منطقة روسية رغما عن عدم اتصالها المباشر بباقي إقليم روسيا، وتاريخيا فهي منطقة ألمانية في الأساس، وأسمها الأصلى "كونغسبرغ" ، لكن المدينة لم تعد ألمانية منذ يوم هزم السوفييت الغزاة الألمان في الحرب العالمية الثانية، وردوا بهجوم مضاد لم يتوقف إلا في قلب برلين، حيث رفع الجيش السوفيتي علم بلاده فوق مبني الرايخ الثالث. وبرغم الانسحاب الروسي مطلع التسعينات من ألمانيا الشرقية مع تفكك الاتحاد السوفيتي نفسه، بقيت كالينينغراد منطقة روسية منذ عام ١٩٤٦ حتى اليوم، وهي تشبه مسمار جحا في قلب أوروبا، ومعسكر كبير تضع فيه روسيا قوات كبيرة الحجم من جيشها، وجغرافيا فهي لا تتصل بأي شكل بروسيا بل يحيط بها بولندا وليتوانيا وبحر البلطيق.
كما جري جزء رئيسي من التدريب علي الحدود الروسية-الأوكرانية، أوكرانيا التي وإن فقدت روسيا حليفها فيها ورئيسها السابق "فيكتور يانوكوفيتش" منذ عدة سنوات عقب احتجاجات شعبية ضده، إلا أن تحركها كان سريع بضم شبه جزيرة القرم عسكريا، ثم إجراء استفتاء شعبي جاءت نتيجته باكتساح بالموافقة علي الانضمام للاتحاد الروسي، مما أعطي للروس مجالا إستراتيجيا هاما، مكنهم خصوصا من الحصول علي موانئ القرم الهامة. كما أعلنت أجزاء من شرق أوكرانيا اقامة دويلات مستقلة، مثل جمهوريتين في دونيتسك ولوهانسك، واللتان لم يعترف بهما دوليا، وإن نالت الدعم بكل سبله من بلاد الرئيس بوتين.
بينما تمت أيضا أجزاء من التدريبات والعمليات اللوجستية في المناطق العسكرية الجنوبية والشمالية والوسطي في روسيا، وكذلك في كازاخستان الدولة الحليفة لموسكو.
أظهرت مناورات زاباد Zapad ٢٠٢١ مدى قوة العلاقات بين روسيا وبيلاروسيا، لكنها بينت في الوقت ذاته مدى التدهور الذي وصلته العلاقات بين روسيا والغرب.
لا ننسي أن نشير هنا إلي أن العلاقات العسكرية الروسية-البيلاروسية هي واحدة من أمتن العلاقات العسكرية دوليا، فمنذ العام ١٩٩٩ وهناك قوة عسكرية مشتركة بين البلدين، ومنذ عام ٢٠١٧ توسعت تلك القوة لتتشكل من قوة جيش دبابات الحرس الأول الروسي ، مع الجيش البيلاروسي بشكل كامل، في ابرز مشهد نجاح تحققه موسكو من منظمة "معاهدة الأمن الجماعي" (CSTO) التي تجمعها هي وكازاخستان، وطاجيكستان، وقرغيزستان، وأرمينيا، وبيلاروسيا.
مناورات دفاعية:
جنود من وحدة سبيتسناز الروسية الخاصة، Aleksey Yermolov، GNU Free Documentation License, Version 1.2, Wikimedia Commons |
بحسب البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الدفاع الروسية فإن مناورات Zapad زاباد ٢٠٢١ هي مناورات "دفاعية بطبعها"، ولا تستهدف أي أمة أو شعب بعينه.
يتصور تدريب Zapad زاباد ٢٠٢١ في سيناريو هذا العام، حدوث صدامًا عسكريا بين "جمهورية وهمية ذات تأثير اقليمي في منطقتها" (المعتدي)، وبين "الاتحاد المركزي" (الأخيار). ولا يخفي بالطبع الإشارات المبطنة التي يفهمها أي متابع للشؤون السياسية والعسكرية في شرق أوروبا، فتلك الدولة المعتدية تمثل في الذهن الروسي "أوكرانيا".
يمثل هذا السيناريو في حد ذاته تغييرا ملحوظا في سيناريوهات تدريبات Zapad زاباد أو الغرب السابقة، إذ لم يوجد فيه أي ذكر للقتال ضد جماعات إرهابية مسلحة، لقد كان ذلك السيناريو ضد الجماعات الإرهابية أكثر السيناريوهات تفضيلا وتكرارا في المناورات العسكرية الروسية منذ نهاية الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفيتي.
وفقا لسيناريو التدريب، فإن كلا الجيشين، "المهاجم والمدافع" علي قدم المساواة عسكريا مع بعضهما البعض، وأن كليهما قوات مسلحة متطورة، وإن كانت المقارنة بين الجيشين الروسي والأوكراني ترجح كفة الأول في كل شيء بصورة فارقة للغاية.
ينطلق التدريب بمرحلة أولى لمدة ثلاثة أيام تشهد قيام جيش الجمهورية المعتدية بالضغط علي جيش الدولة الاتحادية والسيطرة علي أراضي منه، وتتصاعد المواجهة إلي مستوي الحرب بهجمات جوية ضخمة (وهو نفس التكتيك الغربي لدول حلف الناتو في القتال، والذي يحاول دوما استخدام تفوقه المفترض في سلاح الطيران، وذخائر طائراته الدقيقة الإصابة)، وتستمر الحرب إلى المرحلة الثانية التي تستغرق أربعة أيام تنتهي في نهاية المطاف بانتصار جيش الدولة الاتحادية واسترداد الأرض التي فقدها في البداية.
الأكبر في أربعين عاما:
تدريب Zapad زاباد أو الغرب، هو أحد الكلاسيكيات القادمة من عصر الاتحاد السوفيتي قبل تفككه، وإذا ما نظرنا في تاريخه.. فإننا سنجد أن تدريب العام ١٩٨١ كان أكبر وأعظم تمرين أجراه الاتحاد السوفيتي في تاريخه على الإطلاق.
وقتها حشد ما يصل إلى ١٥٠،٠٠٠ جندي من جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي وتحالفه من الدول التابعة له "حلف وارسو" الذي انهار هو أيضا بتفكك الاتحاد السوفيتي، بل إن بعض دوله أصبحت الآن تدور في فلك حلف الناتو.
يأتي تدريب هذا العام وهو يحمل الكثير من النوستالجيا -الحنين للماضي- تجاه الحرب الباردة، إذ أعاد هذه النوعية من المناورات الضخمة، مع تقدير روسي رسمي لعدد القوات المشتركة في تدريب هذا العام من روسيا وبيلاروسيا بنحو ٢٠٠ ألف مقاتل، و٨٠ طائرة مختلفة الأنواع والطرازات منها طائرات الهيلكوبتر، و٧٦٠ وحدة مختلفة منها أكثر من ٢٩٠ دبابة، وأكثر من ٢٤٠ مدفع، وراجمات الصواريخ والهاون، و١٥ قطعة بحرية.
وتعقيبا علي ذلك الحجم نشرت مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية الشهيرة تقول أننا لو صدقنا أرقام وزارة الدفاع الروسية، فإنها تفوق حتى العدد الذي اشترك في أكبر مناورات أجراها الناتو في الآونة الأخيرة.
وربما لن يكون من المؤكد أن تتماشي مناورات Zapad زاباد ٢٠٢١ مع تلك التي أجريت عام ١٩٨١، يعود ذلك بشكل جزئيً إلى أن روسيا عالقة بين التقليل من حجم تدريباتها من ناحية لأسباب دبلوماسية، ومن ناحية أخرى بسبب "وثيقة فيينا" وهي إجراء لبناء الثقة تم الاتفاق عليه بين روسيا والغرب في عام ١٩٩٠، وتنص علي على أنه يجب الإبلاغ عن التدريبات التي تضم أكثر من ١٣٠٠٠ جندي وفتحها للمراقبين الأجانب.
في السنوات الأخيرة، أصرت روسيا ببساطة على أن ما يبدو أنه تدريبات ضخمة هي في الواقع سلسلة من التدريبات الصغيرة المتميزة، وبالتالي مستثناة من الخضوع لنص وثيقة فيينا، وحتى وهي تعلن عن تدريب هذا العام والذي قالت رسميا أن اجمالي القوات فيه يصل لنحو ٢٠٠ ألف، إلا إنها ناورت بشكل حاد للغاية، مدعية أن عدد من سيشترك منهم في التدريب علي الأراضي الروسية لن يزيد عن ٦٤٠٠ مقاتل فحسب!!!.
ثلاثة متغيرات:
كانت آخر مرة تم فيها تنظيم تدريب Zapad زاباد "الغرب" في عام ٢٠١٧، وبحسب ما نشره "المعهد الدولي للدفاع والأمن في إستونيا" فإن هناك ثلاثة متغيرات رئيسية علي الأقل بين نسخة هذا العام، والنسخة السابقة.
- أولا: بدا واضحا هذه المرة، أن روسيا تبالغ في أعداد القوات والمعدات المشاركة في التدريبات، بدلا من تقليلها كما كانت تفعل سابقا لوقف تفعيل وثيقة فيينا، ومع مبالغتها، فإنها حرصت علي إظهار نفسها شديدة الالتزام بتدابير بناء الثقة. وبرغم كل هذا، لا يثق الغرب في صدق الأرقام الروسية، ففي نسخة عام ٢٠١٧، قال الروس أن عدد الجنود المشاركين كانوا ١٢٧٠٠ جندي، بعد ذلك أشارت تقديرات الخبراء الغربيون أن بين ٦٥ : ٧٠ ألف مقاتل اشتركوا في تلك المناورة.
- ثانيا: بالمشاركة الضخمة لبيلاروسيا في التدريبات، يشكل تدريب Zapad زاباد ٢٠٢١ مزيدا من الضغط علي دول (لاتفيا، ليتوانيا، بولندا).. تلك الدول أصلا مضغوطة بسبب بيلاروسيا بالفعل، فعبر بيلاروسيا تمر حاليا موجات كبيرة من المهاجرين غير الشرعيين إلي تلك الدول والتي تسعي من خلالها للوصول إلي ألمانيا، ويتهم الغرب الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو باستخدام هذه الورقة للضغط.
- ثالثًا: في نسخة عام ٢٠١٧ من تدريب Zapad زاباد، كانت هناك تكهنات حول ما إذا كانت روسيا ستستخدم التدريبات كذريعة لنشر قوات في بيلاروسيا على أساس دائم، ولكن تبين أن ذلك تقدير مبالغ فيه، ومع ذلك فإنه ومنذ العام الماضي زاد الوجود العسكري الروسي في بيلاروسيا بالفعل. بعدما أجبرت الأزمات السياسية الداخلية الرئيس لوكاشينكو على تقديم تنازلات للرئيس فلاديمير بوتين.
المعهد البحري الأمريكي:
المدمرة الروسية الأدميرال تريبتوس، راسية في ميناء مايزورو الياباني، Hunini، licensed under the Creative Commons Attribution-Share Alike 4.0 International license، Wikimedia Commons. |
من جانبه، أظهر المعهد البحري الأمريكي U.S. Naval Institute، اهتمامه بتدريبات Zapad زاباد ٢٠٢١، وأفرد لها تحليلا خاصا تحت عنوان "مشاركة أسطول الشمال وأسطول بحر البلطيق الروسيان في Zapad زاباد ٢٠٢١ التدريب العسكري الذي ينطلق في ١٠ سبتمبر".
المعهد البحري الأمريكي قال أن القوات المسلحة الروسية بدأت للتو أكبر تمرين إستراتيجي لهذا العام، ومع تصاعد التوترات، فإن حلف الناتو ومجموعة الدول الاسكندنافية، يوليان اهتماما وثيقًا.
أضاف المعهد أن المناورات تنتمي لفئة التدريبات الإستراتيجية المشتركة السنوية للجيش الروسي (SSU - sovmestnyye Strategicheskiye ucheniya)، والتي يشترك فيها المناطق العسكرية الشرقية والوسطى والجنوبية والغربية (زابادني) في الجيش الروسي، علاوة علي الأسطول الشمالي من القوات البحرية الروسية.
في ديسمبر ٢٠٢٠، وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو كان قد وصف Zapad زاباد ٢٠٢١ بأنها ستكون تدريبات إستراتيجية بين روسيا وبيلاروسيا، مشيرا إلي أنه سيكون الذروة في عام ٢٠٢١، الذي تخطط القوات المسلحة الروسية فيه لإجراء أكثر من ٤٨٠٠ تدريب علي جميع المستويات بداية من التدريبات الصغيرة وحتى التدريبات الإستراتيجية.
المعهد البحري الأمريكي كشف أن القوات الروسية التي وصلت إلي بيلاروسيا قامت بالتعبئة في أواخر فصل الربيع، وبدأت طلائعها في الوصول بالسكك الحديدية في يوليو الماضي.
ويري المعهد الأمريكي أن أهداف التدريب تتمثل بشكل عام في اختبار قدرة مختلف المناطق العسكرية الروسية علي العمل في الاتجاهات الإستراتيجية المخصصة له، وتقييم عملية تعبئة القوات، وتقييم كفاءة عناصر القيادة بواسطة هيئة الأركان العامة لتنفيذ العمليات الاستراتيجية، وأن نسخة هذا العام تقدم أيضا اختبارات وتقييم للعقيدة القتالية للجيش الروسي، وتكتيكات ومنظومات أسلحته الجديدة.
أما من ناحية السياق الجيوستراتيجي، يري خبراء المعهد البحري الأمريكي أن المناورة تتكشف في سياق معقد وديناميكي. مع تعزز العلاقات بين موسكو ومينسك بشكل هائل منذ عام ٢٠١٧، بينما علاقات هذا الثنائي مع بقية أوروبا تكون "متوترة" في أحسن أحوالها، ويسعي الرئيس البيلاروسي من وجهة النظر الغربية لاستخدام سلاح المهاجرين ضد أوروبا، وخصوصا الأعداد الكبيرة منهم التي تحاول الولوج إلي ليتوانيا، وهو أسلوب يعتقد الغرب أن روسيا تتواطؤ مع مينسك في تنفيذه والسماح به، ما يخلق أزمة مع فيلنيوس.