اليمين المتطرف ... أسطورة تفوق العرق الأبيض القاتلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في السابع والعشرين من أغسطس من العام 2020، حكمت محكمة في نيوزيلندا علي الأسترالي
(برينتون تارانت) بالسجن المؤبد من دون إمكانية حصوله علي إطلاق سراح مشروط، وهو
أول شخص ينال هذه العقوبة في تاريخ نيوزيلندا.
بعض الأعلام المستخدمة من الحركات اليمينية المتطرفة، licensed under the Creative Commons Attribution-Share Alike 4.0 International license |
كانت دفعات الرصاص الغاشمة والغير مميزة التي انطلقت من فوهات بنادق الإرهابي الأسترالي (برينتون تارانت) الآلية، تخترق أجساد المصلين الآمنين من المسلمين في مسجد النور بمدينة كرايستشيرش النيوزيلندية، أثناء أدائهم لشعائر صلاة الجمعة منتصف شهر مارس العام قبل الماضي 2019، تنطلق وقد وجدت لنفسها أساسا زائفا من أسطورة تدعي تفوق الرجل الأبيض علي باقي الأجناس من باقي البشر.
تاريخ قاتم:
قد يبدو غريبا لدي البعض الحديث عن أن الاعتقاد بتفوق العرق الأبيض قد يكون مبررا أو دافعا لجريمة وحشية من نوعية تلك التي حدثت في كرايستشيرش، بالتأكيد هناك مجموعة متداخلة من الدوافع لدي برينتون تارانت، لتنفيذ المجزرة التي يندي لها الجبين، منها الدافع الديني والذي بدا واضحا في رسالته التي أرسلها صبيحة يوم العملية إلي مكتب رئيسة الوزراء النيوزيلندية بالبريد الإلكتروني بل وحتى في تواريخ وأسماء المعارك والأشخاص التي غشت أسلحته.
هذا كله لا مجال للجدال حوله، ولكن هذه الحادثة تستمد لنفسها جذرا تاريخيا لا ريب فيه، بإحساس خبيث بالتفوق العنصري للعرق الأبيض، هذا الاحساس المدعم بفوهات المدافع أيضا، سمح للأوروبيين منذ القرن السابع عشر حتى منتصف القرن العشرين تقريبا بارتكاب جرائم لن تمحوها الأيام كان الأفارقة السود هدفها الرئيسي وليس الوحيد.
هؤلاء البسطاء الذين كانوا أحرارا في بلادهم، اصطيدوا وكأنهم الحيوانات بالضبط، واقتيدوا ليعملوا في مزارع الامريكيتين علي وجه الخصوص في ظروف غير آدمية، وحتى من بقي في بلاده منهم سجلت لنا ذاكرة الكاميرا وحفظت صورا عن ما أرتكبه المستعمر البلجيكي علي سبيل المثال في مستعمراته الأفريقية وعلي رأسها الكونغو، لقد كان ثمن أن يجني الأفريقي ثمارا أقل من الحصة التي يريدها السيد الأبيض هي ببساطة أن يفقد أطرافه، بعض الصور جاءت وهؤلاء الضحايا ينظرون لأطرافهم وهي ملقاة أمامهم بعد قطعها.
أحد تجار الرقيق يصف امرأة أفريقية خلال عرضها في السوق في ريو بونغو (في غينيا ، غرب أفريقيا). صورة من "الكابتن كانوت"، عام 1854، New York public library |
هذه التصرفات المشينة وغيرها، كوضع الأفارقة في أقفاص كالحيوانات وخصوصا في رحلات نقلهم عبر المحيط والتي دفع الكثيرون حياتهم ثمنا لها. للأسف كانت تجد لها فلاسفة ومنظرين كبار، فنجد مثلا وعلي سبيل الصدمة الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت" ، صاحب مشروع التنوير العقلاني !!!، والفيلسوف الألماني "جورج فيريدريك هيجل" في مقدمة كتابه (فلسفة التاريخ)، والمفكر الفرنسي "فولتير" ، والفيلسوف البريطاني "ديفيد هيوم"، كان هؤلاء المفكرين والفلاسفة ذوي الأسماء الرنانة وربطة العنق الأنيقة يرون في الأفارقة عبيدا ... غير تامين أخلاقيا ... وأقل من مستوي البشر(1). لكن هل نجد لدي هؤلاء جميعا تفسيرا لحرب مثل حرب الأفيون علي سبيل المثال التي شنها الرجل الأبيض حماية لتجارة الأفيون في الصين بعد أن رفضت حكومتها استيراده لما له من تأثيرات سلبية علي شعبها، والتي انتهت بهزيمة الصينيين وفرض الرجل الأبيض عودة الأفيون للسوق الصينية بل وتغريم الحكومة الصينية مبالغ لصالح تجار الأفيون.
هكذا انبعث الوهم وغابت الضمائر، اعتقد الكائن البشري الأبيض أنه الأفضل، الأذكى، وأنه بكل تأكيد الذي ليس له مثيل بين كل البشر -من المهم تذكر أنه وفي الحملات الدعائية التي سبقت الحملات الصليبية وخصوصا الحملة الأولي كان المروجين لها يصورون سكان الشرق بأنهم أقل من مستوي البشر، وربما كان الأوروبي أكثر تحضرا من الأفارقة أو الصينيين في مرحلة ما، إلا أنه وللمفارقة فأن الحملات الصليبية زامنت التفوق الحضاري للشرق علي الغرب-.
وبرغم أننا في عالم اليوم نفتخر بما تنص عليه الدساتير والقوانين المحلية، والإعلانات العالمية والاتفاقيات الدولية والقارية لحقوق الإنسان علي المساواة بين البشر جميعا دون تمييز بسبب لون أو دين أو أثنية، فلم تخفت هذه الأحاسيس الباطلة، ونجد أبرز أسمين في خمسينيات ومطلع ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة علي سبيل المثال بجوار اسم الرئيس كينيدي هما (مالكوم إكس، مارتن لوثر كينغ) زعيما حركتين للأمريكيين من أصل أفريقي كانا يهدفان للمساواة مع البيض، كان مصير كليهما الاغتيال، وبالطريق سنجد تدنيس جديد أرتكبه العرق الأبيض هذه المرة لمعطف الطب عندما تم استغلال الأفارقة كفئران تجارب طبية، وحاليا وجدت هذه الأفكار ضالتها في أحزاب اليمين المتطرف حاضنة تنمو فيها وتترعرع، هذا ويتخفى عن الأنظار جماعات قد تقدر بالمئات من أصحاب هذه الأفكار الذين قد يتحين الكثيرون منهم الفرصة للانقضاض مثل برينتون تارانت.
جهل مركب أَمِ حقد عمي:
بخلاف ما تظهره تلك الأفكار من حالة نفسية مرضية، فأنها في الوقت ذاته قد تكشف لنا عن حالة من الجهل المركب. إذ كيف يدعي برينتون تارانت وأمثاله الذين نصبوا أنفسهم حماة العرق الأبيض أنهم يدافعون عن أرضهم ضد ما وصفوه بحالة من الغزو المسلم، رغم أن أستراليا ونيوزيلندا في الأساس لم تكن أرضا بلا شعوب حينما وصلها المستعمر الغربي، بل أن لها شعوبا أصلية، كانت بدورها واحدة من ضحايا المستوطنون البيض، الذين أسسوا أول مستعمراتهم في أستراليا عام 1788، عندما رفع الكابتن في البحرية الملكية (آرثر فيلب) علم بريطانيا عليها، والمثير أن هؤلاء كانوا من المجرمين الذين قررت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس يومها التخلص منهم واستغلالهم في استعمار هذه الأراضي الجديدة. أرتكب هؤلاء جرائم تصل إلي حد الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية في تعريفات (القانون الجنائي الدولي). وهكذا جاء وجود العرق الأبيض هناك علي أنقاض وجماجم سكان أستراليا الأصليون، وقد يكون ملفتا للنظر أن بعض المؤرخين وعلماء الإنسانيات هذه الأيام شرعوا يفتشون في أدلة قوية بأن تجار وصيادين مسلمين من اندونيسيا سبقوا المستعمر الأوروبي بقرنين كاملين، ووطدوا علاقات صداقة وود مع السكان الأصليين.
هذا كله يمكن اعتباره جهل إرهابي أحمق، لكن هذا الشخص الذي قرأ التاريخ ودون أسماء معاركه وشخصياته ليس بجاهل وإنما حاقد، لنضع فوق ما ذكرنا من دلالات تاريخية، الأغنية الحربية الصربية التي كانت في خلفية بثه المباشر لاعتدائه علي موقع فيسبوك وهي "كاراديتش قد رجالك الصرب" في إشارة إلي (رادوفان كاراديتش) رادوفان كاراديتش.. جزار حرب البوسنة.. كيف يتحول طبيب نفسي وشاعر إلي مجرم حرب -الذي صدر ضده حكما بالسجن مدى الحياة من المحكمة الجنائية الدولية الخاصة في لاهاي- . بكل تأكيد لم يكن المسلمين هناك غزاة لبلادهم، وبالطبع لا يجهل هذا الإرهابي ما فعله كاراديتش وجيشه في (سريبرنيتسا) في يوليو 1995 حين قتل ما يناهز عشرة آلاف مسلم، لا يجهل إبادة قري كاملة عن بكرة أبيها، صعقا وحرقا وبالرصاص، وفي مدينة مثل (فيزيجراد) علي سبيل المثال من بقوا علي قيد الحياة بعد كل هذه الأهوال تم تقييدهم بالحبال وألقي بهم في نهر (رمادا)، بالطبع لا يجهل هذا الإرهابي كيف تم اغتصاب سيدات مسلمات بشكل جماعي واستبقائهن أحياءا حتى الولادة ليضعوا أطفالا يأخذهم الصرب، في واحدة من أكثر جرائم التطهير العرقي خسة.
لقد هزت هذه الحرب الضمير الإنساني كله، بل وغيرت بعض قواعد الإثبات لدي المحاكم الجنائية الدولية فأصبحت أكثر صرامة، فنجد المحكمة الجنائية الدولية الخاصة استدلت علي وقوع جرائم كاملة من العثور علي 187 مقبرة جماعية منتشرة في أكثر من 65 موقع، ضم كل منها من 3: 5000 شخص، جاءت تقاريرهم الطبية أن بعض الجثث اختفت ملامحها بسبب الأعيرة النارية، والبعض عثر عليه متشابك الأيدي في أوضاع غريبة للغاية(2). فهل هذا جهل مركب أَمِ حقد عمي يكشف عن نفس آثمة مليئة بالشرور.
هكذا، وفي النهاية سيكون من الخطأ أن ننحي البعد الديني من المسألة، وسيكون من الخطأ كذلك الاعتقاد أن هؤلاء المتطرفين قد أقاموا حربهم ضد المسلمين فحسب، فمنهم من هاجم مسيحيين كونهم سود البشرة مثل الأمريكي (ديلان روف) الذي قتل تسعة أمريكيين من أصل أفريقي داخل كنيسة في يونيو 2015، أو حتى الإرهابي النرويجي "اندرس بريفيك" الذي قتل 77 شخصا في أوسلو.
الحاكم العام لنيوزيلندا،
السيدة باتسي ريدي، تضع الزهور لضحايا حادث إطلاق النار على مسجد كرايستشيرش في هاجلي
بارك، 19 مارس 2019، Government House, New Zealand، licensed under the Creative Commons
Attribution-Share Alike 4.0 International license.
لقد أثبتت التجارب والأيام أن أي طائفة أو جماعة تري في نفسها الأفضلية أو
التفوق علي الآخرين، تقود الجميع في النهاية إلي كارثة، هكذا فعل النازيين في
ألمانيا حينما تخلصوا أولا من أصحاب الاعاقات، ثم اليهود، ومن بعد هؤلاء وهؤلاء
كانوا قد علموا الناس قتل جيرانهم فانتقلوا لإشعال حربا عالمية. نجد كذلك في درس
التاريخ تلك الهجمة المغولية التي رأت في القوة العسكرية والعدد أساسا لتفوق
جنسهم، فجاسوا خلال قارات العالم، قتلوا الملايين في مدينة واحدة كبغداد حاضرة
الخلافة العباسية يومها، وإن أي نظرة تري نتيجة مغايرة لهذا الصعود لليمين المتطرف
فهي بالتأكيد تجلس في الجانب المخالف لمسار التاريخ، علي البشرية جمعاء الآن
التوحد من أجل كبح هؤلاء المتطرفين، فلم تعد أكاليل الزهور ودموع العيون كافية.
هوامش المقال:
(1) غالية قباني، (قرنان علي إلغاء تجارة العبيد في بريطانيا .. تاريخ قاتم
ومهنة شائنة)، مجلة العربي الكويتية، الكويت، يناير 2008.
(2) دكتور محمد مؤنس محب الدين، (القانون الجنائي الدولي، دور المحكمة الجنائية
الدولية في انفاذ القانون الدولي)، محافظة المنوفية، جامعة المنوفية، كلية الحقوق،
2001 – صفحة 115.