كثيرون طوال التاريخ انخرطوا في عالم المخابرات وأنشطة أجهزة الأمن حول العالم، فللجاسوسية عمر يمتد آلاف السنين، لكن بعضا من هؤلاء شكلوا منعرجات كبرى في التاريخ، بل كثيرا ما تغير التاريخ نفسه بسببهم وبفعلهم.
سنودن:
في ٢١ يونيو ١٩٨٣، بمدينة إليزابيث سيتي، ولاية كارولينا، ولد "إدوارد جوزيف سنودن".
ادوارد سنودن، الصورة الاصلية من باترون، صور غيتي.
إنه الاسم الذي سيفجر فيما بعد مفاجأة تهز أركان المجتمع الأمريكي، بكشفه لوجود برامج سرية واسعة النطاق لجمع المعلومات عن المواطنين الأمريكيين من خلال هواتفهم واتصالهم بالإنترنت أو حتى الاتصالات العادية، بإشراف وكالة الأمن القومي الأمريكي نفسها وليس جهاز مخابرات معادي لأمريكا.
ذاته البرنامج الذي كشف عنه سنودن، حوي في تفاصيله التنصت علي الهواتف المحمولة لرؤساء الدول الحليفة للولايات المتحدة.
في صغره، انتقل ادوارد مع أسرته من إليزابيث سيتي حيث ولد، إلى وسط ماريلاند، على مسافة قصيرة من مقر وكالة الأمن القومي في فورت ميد، إذ حصلت علي والدته علي وظيفة "كاتبة" في الوكالة التي سيعمل فيها هو نفسه في المستقبل، وكأن القدر يحمل الطفل إلي مستقبله، مكانيا علي الأقل.
مقتبل الشباب:
مرت السنوات.. وبدت حياة إدوارد في مقتبل شبابه متقلبة بعض الشيء، إذ تسبب طلاق والديه عام ٢٠٠١، في تركه المدرسة الثانوية، ولم يحصل علي الفرصة التي يتمناها كل شاب أمريكي بالالتحاق بالدراسة الجامعية، بيد أنه أكمل دراسته في نوع من الكليات يسمي "كلية مجتمع"، وهناك أكمل إختبار تطوير التعليم العام.
واختبار تطوير التعليم العام هو عبارة عن مجموعة من الاختبارات تتناول خمس مواد، ويحصل من ينجح في اجتيازها علي شهادة رسمية معتمدة بأن لديه المهارات الدراسية المعادلة لشهادة الثانوية العامة الأمريكية أو الكندية.
ثم قرر سنودن ان يلتحق بالجيش، والخدمة في الجيش الأمريكي تحولت منذ عقود من نظام التجنيد إلي نظام التطوع، وهكذا تطوع ادوارد سنودن بالجيش، وبدا أنه سيكون ذو مستقبل في الحياة العسكرية، حيث تم ترشيحه في مايو عام ٢٠٠٤ للالتحاق بالقوات الخاصة، لكن سرعان ما انتهي كل شيء، إذ تم تسريحه من الخدمة بعد أربعة أشهر فحسب.
في أروقة الاستخبارات:
كان اقتراب سنودن من عالم المخابرات بشكل غير مباشر في بدايته، إذ عمل أولا وفي العام ٢٠٠٥ كحارس أمن في ((مركز الدراسات المتقدمة للغة)).
إنها منشاة بحثية في جامعة ماريلاند كانت بشكل أساسي تتبع لوكالة الأمن القومي الأمريكي وليس للجامعة.
وعلي ما يبدو، فبرغم النقص الذي كان يبدو علي سنودن من حيث التعليم والمؤهل الدراسي، فإن الشاب اتسم بالشغف نحو الكمبيوتر وتطبيقاته، وامتلك ذكاء وقدرة بارزة مع اجتهاد وتميز أدركه المسئولين في المخابرات المركزية الأمريكية التي يشار إليها بالإنجليزية اختصارا "CIA"، إلي الدرجة التي جعلتهم يهتمون به، ويتعاقدون معه في العام التالي ٢٠٠٦، لكن هذه المرة ليس كحارس أمن، بل كمسئول فني.
وبدا وكأن الشاب في طريقه ليصبح أحد أهم كوادر جهاز السي آي ايه، إذ ابان عن كفاءه خولته لينال تصريح "سري للغاية" الذي يمكن صاحبه من الدخول والتعامل مع أسرار وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
وفي عام ٢٠٠٧، تم إرساله إلي جنيف، سويسرا، هناك عمل سنودن أمام الانظار كدبلوماسي أمريكي، كان ذلك مجرد غطاء علي عمله الحقيقي كمسؤول عن أمن شبكات الاتصال الأمريكية هناك.
ثم كان موعده مع الخطوة الفارقة الثانية في حياته، والأكثر أهمية عندما دلف لاروقة وكالة الأمن القومي الأمريكي (NSA)، كمتعاقد خاص يعمل لحساب شركتي "ديل" و "بوز ألن هاميلتون" داخل الوكالة.
لكن سنودن كان بمثابة حصان طروادة الذي زرعه المسئولين عن الوكالة بأنفسهم داخل هذا البرنامج السري. فمن موقعه داخل الوكالة، استطاع الاطلاع علي أنشطتها في أحد أكثر برامجها أهمية في ذلك الوقت، وأكثرها سرية علي الإطلاق، إنه برنامج التجسس بالداخل الأمريكي، وعلي حلفائها.
كانت المؤسسة الأمنية الأمريكية الأم، والتي يندرج تحتها كل أجهزة الأمن والمخابرات الأمريكية. علي موعد مع ادوارد سنودن، الشاب الذي سيوجه له أقوي لكمة في تاريخها.
صورة تشرح كل شيء، سنودن مع الجنرال مايكل هايدن في حفل عام ٢٠١١، ابتسامة الجنرال في صورة مع شاب عبقري موثوق يعمل من أجل الوكالة. رغم صدمة الجنرال من كون نفس الشاب هو الذي تسبب في الفضيحة، دافع هايدن ، المدير السابق لوكالة الأمن القومي ووكالة المخابرات المركزية، عن سياسات المراقبة الأمريكية في أعقاب اكتشاف سنودن.
مخترقا كل الإجراءات الأمنية الصارمة المفروضة حتى علي العاملين، جمع سنودن مئات الآلاف من الوثائق البالغة السرية بشأن تلك الممارسات الرقابية والتجسسية التي تجريها وكالة الأمن القومي، وسربها إلي الصحافة، ومن هنا انفجر كل شيء.
لكن كان عليه ترتيب أمره جيدا قبل الاقدام علي تلك الخطوة.
المطلوب رقم ١:
بفعلته تلك، أصبح ادوارد سنودن هو المطلوب الأول علي مستوى العالم، لقد كشف سر الأسرار لأقوي دولة في العالم.
وبالتأكيد، فإن أي شخص كان سيتوقع تعقبه من أسراب العملاء الأمريكيين المنتشرين في كل دول العالم تقريبا، لذا خطط سنودن لأمره جيدا.
ففي مايو ٢٠١٣، كان قد تقدم بطلب إجازة طبية تمت الموافقة عليه، ثم طار ادوارد من هاواي في الولايات المتحدة إلي هونغ كونغ.
هناك قدم المعلومات للصحافة العالمية، وبالتحديد لصحفيين من جريدة "الجارديان" البريطانية الشهيرة، والمخرجة الامريكية الشهيرة "لورا باتريوس" ... ستنتج لورا بعد ذلك فيلمين عن ادوارد سنودن، وهما "تقارير الأمن القومي" وهو فيلم وثائقي اصدرته عام ٢٠١٣، وحازت عنه جائزة "جورج بولك" وجائزة "بوليتزر" للخدمة العامة التي تمنح بشكل مشترك من صحيفتي الغارديان البريطانية، وواشنطن بوست الأمريكية.
لورا حصلت أيضا عام ٢٠١٥ علي جائزة الأوسكار كأفضل فيلم ضمن فئة "الأفلام الوثائقية " كجائزة عن فيلمها "المواطن الرابع" الذي قصت فيه حكاية ادوارد سنودن.
نعود مجددا إلي هونغ كونغ، إذ بدأت الصحف حول العالم تتلقف الوثائق التي بحوزة ادوارد سنودن، وكان كثيرا منها وثائق تشرح بالتفصيل كيف يتم التنصت علي المواطنين وزعماء الدول الحليفة.
وبينما اعتبره البعض بطلا، اذ أوضح للمجتمع الأمريكي أن حياته الخاصة منتهكة، اتهم سنودن رسميا بانتهاك قانون التجسس الأمريكي والذي وضع لأول مرة عام ١٩١٧ أبان الحرب العالمية الأولى، ومن بين كل من اتهموا بموجب هذا القانون، كان سنودن مسئول عن تسريب أكبر مخبأ معلومات في تاريخ أمريكا، ومع مرور بعض الوقت سيتهمه آخرون -بلا أدلة دامغة- أنه أحد حلقات سلسلة العملاء لمصلحة الروس، وعلي أي حال فلقد صدر بحقه أمر توقيف قضائي في الولايات المتحدة، يبدو أن الأمريكيين لن يتمكنوا من إنفاذه ابدا.
فمن هونغ كونغ، انطلق نحو روسيا، غريمة بلاده التقليدية. لقد كان مؤكدا أن حتى حلفاء بلاده الغاضبون لن يترددوا في تسليمه إليها إذا ما لجأ إلي أي دولة منهم.
في رواية أخرى، كان سفر سنودن لروسيا معد مسبقا، كجاسوس كان يعمل لصالح روسيا طوال الوقت، حتى وإن لم تعلن موسكو حتى الآن عن ذلك، ونفته كل النفي.
الفضيحة:
خلف سنودن وراءه عاصفة من ردود الأفعال، ليس فقط علي مستوي الشعب الأمريكي، الشعب الذي كان يظن أن بياناته واتصالاته محمية بقوة القوانين والدستور الأمريكي، ليفيق علي حقيقة أن أجهزته الأمنية ذاتها هي التي تخترقه، بل علي مستوى حكومات الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، كانت واشنطن في فضيحة حقيقية، بدت كصديق غادر لا يمكن الوثوق به، ومرت علاقاتها مع الحكومات الأوروبية بالتحديد بفترة حالكة.
الألمان بالتحديد كانوا الأكثر غضبا، لقد كشفوا أمر ان هاتف المستشارة أنجيلا ميركل كان مخترقا.
اضطرت مستشارة ألمانيا أن تنتظر عاما كاملا كي توفر لها أجهزة بلادها الأمنية هاتفا جديدا محصن ضد الاختراقات الأمريكية، الصورة الأصلية من رويترز.
كان علي الرئيس الأمريكي حينها "باراك أوباما" أن يجري محادثات شديدة في الإحراج مع قادة الاتحاد الأوروبي حول تجسس بلاده علي حلفائها، محادثات كانت حبلي بالاعتذارات الأمريكية.
في بلاد الدب:
هناك حيث الجليد الصاقع، والدببة الروسية، هناك في بلاد القياصرة، حيث يحكم العم بوتين منذ العام ٢٠٠٠، وجد ادوارد سنودن ملاذه الوحيد من قبضة أمريكا.
في يونيو ٢٠١٣، وصل سنودن لروسيا. ومن هناك، وإلي يومنا هذا فهو نجم أحاديث صحفية لمختلف وسائل الإعلام بمختلف أرجاء الدنيا.
في أكتوبر ٢٠٢٠، حصل سنودن أخيرا علي تصريح بالاقامة الدائمة في الاتحاد الروسي، ثم تقدم في الشهر التالي مباشرة بطلب للحصول علي الجنسية الروسية.
وعلي ما يبدو، ووفقا لطبائع الأمور، لن يتم تسليم ادوارد سنودن للولايات المتحدة أبدا، يشكل بقاءه في روسيا آمنا دليلا حيا لكل شخص تريد روسيا ان تحوله لجاسوس في الداخل الامريكي، معنا ستعيش بأمان، وسنحميك، ولما لا قد تصبح نجما من نجوم الإعلام.