السادس من أكتوبر ١٩٧٣، في ذلك التاريخ انطلقت حرب أكتوبر أو رمضان كما تسمي في مصر، حرب تشرين كما تسمي في سوريا، حرب يوم كيبور كما تسمي في إسرائيل.
عن الحرب:
بدأ المصريين وحلفائهم السوريين الحرب بهدف تحرير أرضهم المحتلة منذ حرب الستة أيام في يونيو ١٩٦٧.
جنود مصريين يرفعون علم بلادهم فوق أحد حصون خط بارليف، وتظهر أسلاك شائكة قاموا بقطعها. |
ورغم أن الجبهة السورية قد حققت نجاحا متميزا في بداية القتال، واستردت "جبل الشيخ" أهم مناطق الجولان المحتل، ووصلت لحدود بحيرة طبرية، مهددة إسرائيل في قلبها، إلا أن دفة القتال تحولت مع صبيحة اليوم الثالث لصالح الإسرائيليين.
وواصلت الأمور تدهورها حتى بلغت مقدمة القوات الإسرائيلية لحدود دمشق، العاصمة السورية ذاتها، وقد كان دفع الجيش العراقي بقواته في القتال، سببا رئيسيا في تراجع الإسرائيليين.
علي الجبهة المصرية، تمسك المصريين بمواقعهم جيدا، وحرروا ١٥ كم بعمق سيناء، وحتى الثغرة التي تمكنت إسرائيل بفضل المساعدات الأمريكية المتدفقة من احداثها بين الجيشين الثاني والثالث غرب القناة، انهي المصريين الأمر فيها لمصلحتهم، مع منعهم القوات الإسرائيلية من دخول مدينتي السويس أو الاسماعيلية، وحصر قواتهم داخل جيب ضيق من الأرض.
ومع وقف إطلاق النار علي الجبهة المصرية، كان الجيش المصري قد غير جميع المعادلات، ووفق جميع الاوضاع لصالحه، لقد عبر المصريين قناة السويس، كما سقط خط بارليف في أيديهم، وفشلت كل هجمات إسرائيل المضادة في زحزحتهم سنتيمتر واحد إلي الخلف، لقد انتصر المصريين في معركتهم.
ما بعد الحرب:
ولكن ما حدث في أكتوبر ١٩٧٣ كان رهيبا، لقد كان نقطة الانطلاق العربية الأولى، فتحطمت في أكتوبر ١٩٧٣ أساطير جيش الدفاع الإسرائيلي عن الجندي الإسرائيلي الذي لا يقهر، وعن الحدود الآمنة، وغيرها من أوهام حاولوا نسجها منذ نكبة ١٩٤٨، وعضدها انتصارهم في يونيو ١٩٦٧.
جنود إسرائيليين وقعوا أسري في قبضة الجيش المصري |
هذه الأوهام التي شكلت بالفعل حاجزا نفسيا رهيبا في النفس العربية، حان دورها للتفتت، أطنان من حديد دبابات إسرائيل كانت مهروسة في صحراء سيناء بفعل المصريين، طائرات إسرائيل التي قالوا عنها ذراعها الطولى التي تصل لأي مكان في بلاد العرب، اسقطها الدفاع الجوي المصري كمبيد حشري قوي يسقط الذباب، جنود إسرائيل عرضوا صفوفا وهم أسرى، كما نجح العراقيين في فعل منجزات عسكرية كبرى علي الجبهة السورية، وحتى وإن بقي الجولان محتلا، فقد اخرجوا مع السوريين كل القوات الإسرائيلية من باقي الجغرافيا السورية.
لكن الكارثة الإسرائيلية الكبرى التي خرجت بها الدولة العبرية من الحرب هي خسائرها البشرية. وأنها وللمرة الأولى في تاريخها، تخرج من أرض احتلتها بقوة السلاح العربي.
العامل البشري:
في مذكراته عن حرب أكتوبر، كتب الفريق سعد الدين الشاذلي عن نقطتي ضعف إسرائيل المتمثلتان في عدم قدرتها علي تحمل خسائر بشرية كبيرة، والثانية عدم قدرتها خوض معارك طويلة زمنيا، لأن الجنود الإسرائيليين في الأصل هم طلاب جامعات وأطباء ومهندسين ومحامين ومدرسين وحرفيين وغيرهم من العاملين في كل المجالات، وتوقفهم عن العمل يعني كارثة اقتصادية، إذ يتوقف العمل والإنتاج في كل نواحي الحياة، يشبه الأمر الإغلاق الذي فرضته الدول عام ٢٠٢٠ بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد "كوفيد-١٩".
وهاتين النقطتين نتاج طبيعي لقلة عدد الإسرائيليين مقارنة بسكان الدول العربية، بل وقلتهم مقارنة بسكان دول المواجهة فحسب.
في حرب ١٩٤٨، والتي تسمي بالنكبة عربيا، وبحرب الاستقلال في إسرائيل، خسر الإسرائيليين ما هو أقل من ٧ آلاف فرد، وهي فاتورة منخفضة للغاية لإقامة دولة. شعب الجزائر علي سبيل المثال نال استقلاله في نفس الحقبة الزمنية بأكثر من مليون شهيد.
بعد النكبة، فكر الإسرائيليين دوما في تقليل خسائرهم البشرية في أي صراع مع العرب، ولذا حرصوا دوما في استراتيجيتهم علي التحالف مع دول عظمي للحصول علي التسليح المتطور منها، ولما لا لمشاركتهم هجماتهم ضد العرب وهو ما حدث فعليا في العدوان الثلاثي علي مصر عام ١٩٥٦.
في تلك الحرب، خسرت إسرائيل اقل من ٢٥٠ قتيل. - وهو رقم قد تكون خسرته في معركة واحدة فقط من معارك حرب أكتوبر-، ومع انسحاب الجيش المصري من سيناء لحماية مدن القناة والقاهرة من الغزو الانجلو-فرنسي، ولمنع عمل كماشة علي قواته في سيناء، استولي الإسرائيليين علي سيناء حتى انسحبوا منها العام التالي ١٩٥٧.
أما انجازهم العسكري الابرز في يونيو ١٩٦٧، فلقد خسروا فيه نحو ألف قتيل علي الجبهات المصرية والسورية والأردنية مجتمعة.
حرب الاستنزاف التي شنتها مصر كفاصل بين يونيو ١٩٦٧ وأكتوبر ١٩٧٣، للاستعداد العملي والفعلي لحرب تحرير سيناء، تتعدد فيها المصادر عن ما خسرته فيها إسرائيل، لكن الرقم الأعلى يقف عند حاجز ١٥٠٠ قتيل.
لذا، فلا يستغرب قول أن حرب أكتوبر ١٩٧٣، كانت ولاتزال كابوس إسرائيل الذي لم ينتهي حتى اليوم، ورغم كل محاولات إسرائيل تقليل عدد قتلاها الحقيقيين، فإن الرقم لا يقل بحال من الأحوال عن عشرة آلاف قتيل.
الهاجس الأكبر:
ظلت حرب أكتوبر هاجسا في الشخصية الإسرائيلية، خصوصا أن الجيل الجديد من السياسيين كان عدد منهم من المقاتلين في الحرب بالفعل، ومن أبرزهم شارون، ايهود باراك، وبنيامين نتنياهو، بخلاف اسحق رابين الذي وإن كان من جيل أقدم، فلقد تولي السلطة كذلك حتى اغتيل عام ١٩٩٥، بسبب مساعيه للسلام مع الفلسطينيين.
ازدادت شراهة إسرائيل نحو امتلاك أسلحة أفضل، وأكثر قدرة تكنولوجيا علي حسم المعارك دون التعرض لخسائر بشرية.
حرب ١٩٨٢:
كانت حرب ١٩٨٢ التي دارت بين سوريا ومعها الفصائل الفلسطينية واللبنانية من جانب ضد إسرائيل التي اجتاحت لبنان من جانب آخر، تحمل دلالاتين اثنتين غاية في الأهمية.
الأولى: أنها الحرب الأخيرة التي قررت إسرائيل فيها القتال ضد جيش عربي نظامي، فمنذ ذلك التاريخ احجم الإسرائيليين عن القيام بتلك الفعلة، رغم تطور قدرات جيشهم كثيرا، ورغم تراجع القدرات العسكرية السورية في الميزان التكنولوجي والنيراني كثيرا منذ ذلك التاريخ.
اعتمد السوريين كثيرا في حرب ١٩٨٢ علي جماعات صيد الدبابات، وفي الصورة جماعة مسلحة بقاذف الصواريخ الموجة الأوروبي الصنع من طراز "ميلان"، وكان السوريين قد حصلوا عليه حينها بتمويل سعودي. |
الثانية: ظهر في الحرب أن الإسرائيليين خرجوا بعقدة من حرب أكتوبر ١٩٧٣، وأنهم كانوا حريصين في كل مراحل القتال، علي تجنب خوض معارك كبيرة ذات كلفة بشرية مرتفعة، وهو لم ينجحوا فيه دوما رغم قصر الأمد الزمني للحرب علي أربعة أيام، فحدثت مثلا معركة السلطان يعقوب، كما انهم كانوا سيتعرضون لخسائر أفدح لو كانت القيادة السورية قد استغلت عمليات حشدهم وتحركهم البطيئة علي الطرق الضيقة، والتي كانت هدفا ثمينا للمدفعية والطيران السوري، لكن ضربات السوريين لهذه الاختناقات المرورية العسكرية لم تكن علي مستوي الحدث.
لذا فلقد استنتج الإسرائيليين أنهم لا يمكنهم التوسع علي الأرض أو خوض حرب ضد جيش نظامي بلا خسائر كبيرة.
جيل جديد:
من ولد في إسرائيل عام ١٩٧٣ حتى الآن بلغ عمر أكبرهم اليوم ٤٨ عاما... نتحدث إذن عن أكثر من جيل جديد لم يعتد علي الخسائر البشرية الكبرى.
ولنتحدث هنا بلغة الأرقام، فالانتفاضة الفلسطينية الأولى عام ١٩٨٧ والتي سميت بانتفاضة الحجارة، قتل فيها ١٦٠ إسرائيليا، وهي خسائر حادثة طائرة مدنية واحدة.
ورغم أن معارك إسرائيل ضد حزب ﷲ، قد اضطرتها للانسحاب من جنوب لبنان، فإننا نجد المعارك التي استمرت بين عامي ١٩٨٢ حتى عام ٢٠٠٠، لم يقتل فيها سوى ٦٧٥ إسرائيلي، علي مدار ١٨ عام، بمعني أنه كان يقتل متوسط ٣٧،٥ إسرائيلي سنويا، اي نحو قتيل كل عشرة أيام، وهي احصائية متدنية حرفيا، قد يتفوق عليها عدد قتلي حوادث السير.
ثم الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام ٢٠٠٠، خسروا فيها نحو ألف قتيل.
أما حرب لبنان ٢٠٠٦، فلقد قتل فيها ١٦٥ إسرائيليا، بينما توقف الرقم عند ١٣ قتيل في عدوان ديسمبر ٢٠٠٨-يناير ٢٠٠٩ علي قطاع غزة. أما عدوان العام ٢٠١٢ علي غزة أيضا فكان الرقم ٢٠ قتيلا، وارتفع في عدوان عام ٢٠١٤ ليصل لنحو ٧٠ قتيلا. أما جولة الصراع الأخيرة هذا العام ٢٠٢١ مع حماس فلقد توقف فبها الرقم عند ١٢ قتيلا.
هذه الأرقام التي تشبه قتلي حوادث الطرق وليس قتلى صراعات مسلحة ومعارك، بقليل من التدقيق تكشف لنا عورات إسرائيل، ككيان مسلح من قمة رأسه إلي أخمص قدميه، يحرص أن لا يؤذيه احد، لذا فهو يحجم عن المغامرات العسكرية، تلك المغامرات التي كانت ميزته الرئيسية الأولى ذات يوم.
هشاشة داخلية:
لقد اصبحت إسرائيل دولة أكثر هشاشة، اختفي ومات جيلها الأول والثاني الذي حارب وقاتل وتعرض لخسائر بالآلاف، وأصبح لديها جيل علي استعداد لترك إسرائيل والهجرة مع مقتل ١٢ شخص فحسب.
لذا فمن غير المدهش، حالة الحرص الشديدة علي عدم خوض اي قتال يؤدي لخسائر بشرية كبيرة.
علي سبيل المثال، كان بمقدور الإسرائيليين في العدوان الأخير علي غزة، ومن قبله عدوان عام ٢٠١٤، كان بمقدورهم اقتحام غزة برا.. لكن عملية كتلك وسط منطقة ذات كثافة سكانية من بين الأعلى عالميا، ويسيطر عليها تنظيم مسلح، بمقاتلين مدربين جيدا ومسلحين بكثافة، كانت تعني ببساطة تكلفة بشرية لم يعد بمقدور إسرائيل تحملها.
لقد جربوا حظهم عام ٢٠١٤، وحاولوا اقتحام حي الشجاعية في غزة، يومها سقط منهم ١٣ جنديا من لواء جولاني، أحد أهم ألوية الجيش الإسرائيلي في يوم واحد، وذلك بحسب الأرقام الإسرائيلية، فقرروا التوقف عن الهجوم البري.
من كل هذه الشواهد، أصبح جليا أن إسرائيل قد تحولت من دولة علي استعداد لدخول حرب ضد ثلاث أو اربع دول عربية ذات صباح في يونيو ١٩٦٧ إلي دولة تخشي اقتحام قطاع، هو نفسه استولت عليه بعد أقل من يومين من القتال في تلك الحرب.
الانكماش الجغرافي:
بجانب ذلك البعد النفسي الذي أصبح ثقيلا لتلك الدرجة التي تحجم صانع القرار الإسرائيلي عن الدخول لمعارك كبرى مع تحمل نتائجها المتوقعة من حدوث خسائر بشرية ضخمة.
جندي إسرائيلي فوق دبابة بالقرب من حدود قطاع غزة، عدوان عام ٢٠٢١، الذي صاحب فترة أواخر رمضان وعيد الفطر لدي المسلمين، صورة من نيويورك تايمز. |
بجانب هذا، فإن إسرائيل تحولت من أقصى امتدادتها الجغرافية بعد حرب يونيو ١٩٦٧، إلي حالة انكماش جغرافية، تتالي فيها فقدانها للأرض.
خسرت إسرائيل في البداية سيناء، شبه الجزيرة المصرية التي احتلتها، مساحتها ٦٠ ألف كم مربع، انها بمفردها تمثل نحو ثلاثة أضعاف مساحة إسرائيل الحالية (٢٢،١٤٥ كم مربع).
ثم خسرت اراضي اعادتها للمملكة الأردنية الهاشمية بموجب معاهدة وادي عربة للسلام بين البلدين عام ١٩٩٤، وكان أخرها بلدتين صغيرتين هما "الباقورة والغمر"، وهما بلدتان يغلب عليهما النشاط الزراعي، وذلك عام ٢٠١٩، بعدما تركتا كحق انتفاع للمزارعين الإسرائيليين لمدة ٢٥ عام مع الحق في التجديد، ولكن في ذلك العام، رفض الملك الاردني عبد ﷲ الثاني مد حق الانتفاع، وصمم علي إعادتها للسيادة الأردنية، رغم التهديدات الإسرائيلية له.
ولا ننسي في الطريق، الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام ٢٠٠٠ تحت وطأة ضربات المقاومة اللبنانية، ثم الانسحاب من قطاع غزة عام ٢٠٠٦، وبالطبع المناطق التي بحوزة السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية والتي اقرت بتبعيتها للفلسطينيين بموجب اتفاقية أوسلو.
نتائج:
في النهاية، فرغم كل ما تبدو عليه إسرائيل من قوة عسكرية باطشة، إلا أنها إستراتيجيا أصبحت أكثر حساسية تجاة مقتل فرد واحد منها، وأصبحت تكسر محظورات قديمة بالانسحاب من أراضي عربية أو وقف قتال نتيجة خسائر أعداد كانت تخسرها في معركة وربما اشتباك واحد منذ عقود.
نعم تغيرت إسرائيل، اصبحت أكثر هشاشة، لكن السؤال، هل أصبحت اكثر استعداد للانخراط في سلام عادل... يعطي للفلسطينيين حقهم المشروع في اقامة دولة مستقلة علي حدود ٤ يونيو ١٩٦٧، وعاصمتها القدس، ويعيد للسوريين الجولان المحتل.
الاجابة هنا للأسف الشديد هي لا.. لا يريد الإسرائيليين فعل ذلك، وهم في هذا السبيل، ومن أجل هذا الهدف يحاولون خلق حالة اللاسلم واللاحرب الدائمة.. لكنهم وهم يفعلون ذلك تزداد حساسيتهم المفرطة اصلا تجاه الخسائر البشرية، خصوصا في عصر الإنترنت الذي اصبح ينقل للعالم كله لحظات الذعر والخوف بين الجنود والمدنيين الإسرائيليين من قصف الصواريخ مثلا، ولذا فإن أي حرب واسعة مقبلة، قد تكلفهم خسائر بشرية فادحة قد تؤدي لاجبارهم جبرا علي ذلك، فيجدون أنفسهم في خانة المضطر للانسحاب، لا خانة صانعي السلام.