حمل العام ١٩٩٣ نذير شؤم علي ما يبدو للبرجين التوأمين الشهيرين اللذان كانا يشكلان مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك الأمريكية الشهيرة، ففي ذلك العام الذي سبق الهجوم الدامي عليهما من السماء، بطائرات مدنية مختطفة، والذي أدي لانهيارهما تماما في الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١، وقع انفجار ضخم هز أركانهما هزا شديدا.
رجال الشرطة والاطفاء يعاينون بعض أضرار التفجير، صورة بعدسة ريتشارد درو، صورة من AP.
فدعونا نتتبع خيوط ما حدث...
الوصول لأمريكا:
في الأول من سبتمبر عام ١٩٩٢، وصل أحمد عجاج ورمزي يوسف من باكستان إلي الولايات المتحدة الأمريكية، سيكون هذين الأسمين جزءا أساسيا من صنع التفجير المروع.
في المطار، كان هناك مفاجأة ضخمة، لقد تم اكتشاف أن جواز سفر أحمد عجاج السويدي، لم يكن إلا جواز سفر مزور بشكل فاضح، بالتالي كان الأجراء الطبيعي الوحيد في هذه الحالة، أن قام مفتشي الجمارك باحتجازه ومصادرة حقيبته.
الحقيبة جلبت المزيد من المتاعب لأحمد عجاج، فبداخلها تم العثور علي كتيبات لصنع المتفجرات، وكتب دعائية تهاجم الولايات المتحدة!!!.
علي الناحية الأخرى من المطار، كان رمزي يوسف يواجه بعض العقبات كذلك، وإن كانت أقل كثيرا من صاحبه.
جواز سفره العراقي المزور كذلك، والذي حمل اسم عبد الباسط محمود، لم يتم كشفه.. لكن المشكلة أنه قادم إلي الولايات المتحدة دون فيزا تسمح له بدخول أراضيها.. كان عبد الباسط محمود أو رمزي يوسف في الحقيقة يطلب اللجوء السياسي، وذلك أمرا كان معروفا حينها في زمن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، خصوصا بعد غزو الكويت والتحالف الدولي ضده في عاصفة الصحراء لدفعه خارجها، منذ تلك الأحداث، حصل العديد من العراقيين علي اللجوء السياسي في عدة دول حول العالم، بحجة أنهم معارضين لنظام البعث العراقي بقيادة صدام، وأنهم يخشون من القتل أو حتى الاضطهاد.
صورتين لنفس الشخص، رمزي يوسف
وربما كان العداء مع صدام هو "الفيزا" لذلك الشخص الذي سيتورط في هجوم سيبقى في الذاكرة الأمريكية دوما، إذ سمح له بدخول أمريكا بعدما وقع علي تعهد خاص علي مسئوليته الشخصية... كان أمرا يشبه الفانتازيا.. شخص يخطط لجريمة يتعهد بالعكس فيقبل دخوله للأراضي الأمريكية، ولكنها الأقدار.
بدأ العمل:
بينما اقتيد أحمد عجاج إلي السجن بتهمة الدخول الغير شرعي للولايات المتحدة وليس كإرهابي بالطبع، بدأ رمزي يوسف في تنفيذ الخطة التي كان هدفها إسقاط برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك وليس فقط تفجيرهما... كانوا يريدون الكثير من الحظ لتنجح العملية، فلقد اتسع خيالهم لتصور أن تفجير أحد البرجين من أسفله سيؤدي لانهياره، وأن حطام هذا الانهيار سيسقط علي البرج الموازي له، فيدفعه للسقوط معه في نفس الوقت.
في تلك الاثناء، التقي رمزي يوسف بعبد الرحمن ياسين، العقلَ المدبر للعملية، والذي تميز أنه يحمل الجنسية الأمريكية لأنه من مواليد الولايات المتحدة، انتقل للعراق بلد والديه في الستينيات، ثم عاد لأمريكا عام ١٩٩٢ بسهولة لحمله جواز سفر أمريكي.
وبمحمد سلامة وهو أحد المشاركين فيها أيضا، وبمرور شهر، أي في الاول من أكتوبر ١٩٩٢ كانوا قد وفروا لرمزي سكنا في غرفة مستأجرة في منطقة ليتل ايجيبت في جيرسي سيتي، بنيو جيرسي.
وتحت قيادة رمزي يوسف، تسارعت الخطوات نحو التنفيذ، وشرع المخططون للعملية في شراء مواد لصنع القنابل والمتفجرات وقاموا بتخزينها في خزانة استأجرها محمد سلامة. ويعد تأجير الخزن لحفظ بعض الأغراض الشخصية بدلا من وضعها في المنزل هو أمر معتاد في الولايات المتحدة، لكن أحدا لم يدري أن ما يتم تخزينه هو مواد صنع متفجرات.
قبل العملية بثلاثة أيام فقط، استأجر محمد سلامة سيارة فان، إنها السيارة التي سيتم تنفيذ العملية بها، وستكون نفسها مفتاحا هاما ومفصلا أساسيا في كشف لغزها فيما بعد.
السادس والعشرين من فبراير:
نحن اليوم في السادس والعشرين من فبراير عام ١٩٩٣، صبيحة يوم عمل عادي للغاية في نيويورك النابضة بالحياة، والاقتصاد والمال، كل شئ ستجده في نيويورك.
عبد الرحمن ياسين بصحبة رمزي يوسف يقودان السيارة المفخخة وبداخلها القنبلة التي صنعوها بوزن ١٢٠٠ رطل (أي ما يعادل ٦٨٠ كجم) نحو البرجين، لقد مرا بسلام من أمام الجميع، وضعوها في المكان المحدد في جراج السيارات، ثم غادرا فهدوء وكأنهما سيصعدان للمركز كغيرهم من الآلاف المتدفقين عليه يوميا.
عقارب الساعة تتوقف عند الدقيقة السابعة عشر بعد الظهر..
لابد أن كل شخص عاصر الانفجار تذكر اللحظات التي سبقت التفجير، لحظته.
ثم...
انفجار ضخم، قنبلة في الطابق السفلي من مرآب السيارات ببرج التجارة العالمي... انفجار بلغت ضخامته وأثره أن هز ليس البرج الذي وقع فيه فحسب، بل هز جزءا واسعا من حي مانهاتن الشهير.
من آثار الانفجار، تبين شكله، لقد أخذ شكل ثوران هائل كثورة البراكين، مخلفا ورائه حفرة بلغ عمقها حوالى ١٠٠ قدم، مدمرا عدة طوابق من فوقه، فتسبب في دمار من أسفله ومن فوقه.
هذا الشكل من الانفجار، قد يرجع إلي خزانات غاز الهيدروجين التي اشتراها منفذو العملية ووضعوها في السيارة الفان مع القنبلة، ما أدي لزيادة الكتلة والطاقة الانفجارية.
فوضي:
بالتأكيد كان أول ما حدث أن دبت الفوضي في كل الأرجاء، فور وقوع الانفجار لقي ٦ أشخاص حتفهم لحظيا... في ذلك الوقت، وهو وقت الذروة، كان مبني التجارة العالمي يعج بخمسين ألف شخص.
معظم من كانوا بالقرب من موقع التفجير عانوا من الاختناق ومشكلات التنفس نتيجة الدخان الكثيف الذي تصاعد، صورة بعدسة مارتي ليدرهاندلر، من وكالة أسوشيتد برس.
واجه الجرحي بجانب آلام جروحهم، خطرا جديدا مثلته ألسنه اللهب والدخان المتصاعدة إليهم. عندما انتهي احصاء الجرحي ذلك اليوم، وجدوا الرقم قد وصل إلي "ألف" مصاب، ويزيدون قليلا، كان بعضهم مصابين بجروح بالغة، لقد تهشمت أطرافهم.. كان ذلك -حتى تاريخه- الهجوم الإرهابي الأكثر دموية علي أرض الولايات المتحدة، سيظل محتفظا بهذا الوصف حتى أحداث سبتمبر ٢٠٠١، في نفس المكان.
حتى من كانوا في الأماكن البعيدة عن النار والدخان داخل البرجين، اصيبوا بذعر شديد أدي لحالة من التدافع السريع في محاولة لخروج المبني، كانت حالة ضخمة من الذعر المغطي بالدخان.
كانت رائحة الموت تشيع في الارجاء، والفوضي والحطام يتناثر في كل ركن، صورة لموقع الحادث في الليلة الأولى، صورة من موقع FBI.
أما منفذي الهجوم، هربوا من موقع الحادث دون أن يلاحظهم أحد وسط تلك الجلبة.
دلائل:
كان تفجير برج التجارة العالمي عام ١٩٩٣، بمثابة الدليل القاطع علي أن الإرهاب تحول من ظاهرة محلية إلي ظاهرة دولية، وأن بمقدوره أن يضرب في كل مكان. فلا يوجد أحد محصن ضده، والجميع يمكن أن يطاله الأذى، والدليل حي أمامهم لقد وصل من الشرق الأوسط حيث اعتقدوا أنه مقره ومستقره الذي لن يخرج منه، ليصل إلي قلب نيويورك ليثير ضجة كبيرة.
آثار التفجير، صورة من وكالة أسوشيتد برس/ بعدسة ريتشارد درو
هكذا استنتجت إدارة شرطة نيويورك ومكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، وفرقة العمل الخاصة بمكافحة الإرهاب فيه، ومكتب الكحول والتبغ والاسلحة النارية والمتفجرات، وجهاز الأمن الدبلوماسي الأمريكي، وفرقة العمل المشتركة لمكافحة الإرهاب، والذين اشتركوا جميعا في التحقيقات حول ما حدث... لكن وللوصول لتلك النتيجة كان عليهم الاستغراق في تحقيق ضخم أولا، خصوصا أن البعض وقتها وجه أصابع الاتهام للزعيم الليبي معمر القذافي، وكذا للرئيس العراقي صدام حسين، لذا كان حتما أن يتم التحديد بشكل قاطع.
التحقيقات:
تشكل مركز قيادة جمع كل تلك المؤسسات لبدأ التحقيق.
كانت غرائز الجميع البحثية تشير إلي أن عملا من ذلك النوع لن يقدم عليه إلا جماعة إرهابية، وبالتالي فتحوا مباشرة ملفات بعض المشكوك فيهم والذين كانوا يتتبعونهم منذ شهور. لكن الغريزة أو الحدس الأمني لا يكفي في حدث كهذا، كان عليهم استخلاص دلائل قاطعة.
بدأ التحقيق الشامل بشكل يكاد ان يكون خرافيا، فمن مكتب التحقيقات الفيدرالي وحده انضم نحو ٧٠٠ عميل من جميع أرجاء العالم للمشاركة في التحقيقات.
أحد المحققين يستخدم جهاز كاشف عن المتفجرات خلال عملية رفع الادلة من مسرح الجريمة، صورة من مكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية
ومن لوحة أرقام شاحنة فان بدأت الخيوط تتكشف..
عثر المحققون في الثامن والعشرين من فبراير، علي لوحة أرقام شاحنة وجدوا أنها مبلغ عن سرقتها في اليوم السابق الهجوم، وبمزيد من البحث وجدوا أن "محمد سلامة" نفسه كان قد استأجر السيارة، كان سلامة معروفا أصلا بتشدده لدي الأجهزة الأمنية الأمريكية، وفي الرابع من مارس ألقي فريقا من مكتب التحقيقات الفيدرالي القبض عليه، الغريب أن سلامة لحظة القبض عليه كان يحاول استرداد وديعة الاربعمائة دولار التي تركها لدي مكتب تأجير السيارات!!!.
رغم كل تلك الجهود، لم تمتلك هذه الاجهزة حتى عام ١٩٩٦، دليلا واضحا يفيد أن المحور الذي تدور حوله الشكوك منذ البداية وهو تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، هو من تورط بعناصره في تلك العملية.
ومع ذلك، فمع تتالي الأدلة وصلت فرق البحث لثلاثة متورطين آخرين، إنهم نضال عياد ومحمود أبو حليمة، وأحمد عجاج.
كما تم الوصول للشقة التي صنعت فيها القنبلة وفي ٥ مارس ١٩٩٣، تمت مصادرة خزانة تحتوي على مواد كيميائية خطرة، بما في ذلك ما يكفي من غاز السيانيد السام للقضاء على بلدة كاملة.
ومع ذلك، فإن النجاح الاهم لتلك الأجهزة انها نجحت في القاء القبض علي معظم من خطط واشترك ونفذ العملية بإستثناء واحد فحسب... وتمت محاكمتهم وحكم علي هؤلاء الأربعة بالسجن المؤبد مدى الحياة.
وقف هجوم أضخم:
الخبراء الأمنيين قد يعتقدون أن النتيجة الأهم من عمل بين كل ما توصل إليه فريق العمل المكون من كل تلك الأجهزة سنويا، ما كشفته تحقيقاتها عن مؤامرة إرهابية ثانية كانت تهدف هذه المرة لتفجير سلسلة من معالم نيويورك في وقت واحد، بما في ذلك مبنى الأمم المتحدة وأنفاق هولندا ولينكولن، والساحة الفيدرالية.
ففي الرابع والعشرين من يونيو ١٩٩٤، اقتحم عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي مخزنا في منطقة كوينز بنيويورك وألقوا القبض علي أعضاء الخلية الثانية التي كانت تستعد لتنفيذ هذا الهجوم، اثناء قيامهم بتحضير القنابل.
ما بعد العاصفة:
بحلول التاسع والعشرين من مارس عام ١٩٩٣. كان مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك ببرجيه، جاهزا لفتح أبوابه مجددا بعدما إجريت كل الاصلاحات اللازمة، سيظل نابضا بالحياة حتى ١١ سبتمبر ٢٠٠١.
لا يزال المتهم السابع في القضية "عبد الرحمن ياسين" لم يلقي القبض عليه حتى اليوم.. وذلك بعدما هرب من الولايات المتحدة فور حدوث التفجير. ويرصد برنامج "مكافات من أجل العدالة" التابع للخارجية الأمريكية مبلغ ٥ مليون دولار أمريكي لمن يدلي بمعلومات تؤدي للقبض عليه.
عبد الرحمن ياسين، صورة ينشرها برنامج مكافأت من أجل العدالة التابع للخارجية الأمريكية.
أما رمزي يوسف، والذي كان قد نجح هو كذلك في التبخر من الولايات المتحدة، فكان نفس البرنامج قد عرض ٢ مليون دولار أمريكي لمن يدلي بمعلومات تؤدي للقبض عليه. إنه نفسه من قاد الشاحنة الفان وأوقفها في جراج مركز التجارة العالمي.
كانت الاجهزة الأمريكية مقتنعة أن رمزي سافر إلي دولة باكستان، لكنهم لم يمتلكوا سوى القليل فحسب من المعلومات الموثوقة حول موقعه بالضبط، ومع ذلك استمر عملاء تلك الاجهزة يفتشون باكستان حجرا حجرا وشبرا شبرا للبحث عنه. وبالطبع كان الإعلان عن المكافأة والبحث عنه علنيا تماما.
قاد ذلك إلي أنه وبعد ما يقرب من عامين من هجوم مركز التجارة العالمي، وبالتحديد في فبراير ١٩٩٥، قدم رجل نفسه في منزل دبلوماسي أمريكي في كراتشي، مدعيا ان لديه معلومات حول مكان اختفاء رمزي يوسف، وأنه مستعد للادلاء بها بحثا عن المليونين دولار.
جهاز الأمن الدبلوماسي الأمريكي شرع في العمل، وبواسطة اثنين من عملائه في باكستان وهما "بيل ميلر" و "جيف رينر"، تم التواصل مع المسئولين الباكستانيين واخبارهم أنه سيتم اقتحام الغرفة التي يقيم بها رمزي يوسف في أحد الفنادق وفقا للمعلومات التي ادلي بها المصدر.
وفي السابع من فبراير عام ١٩٩٥، اقتحم فريق من ضباط إنفاذ القانون الباكستانيين وعملاء جهاز الامن الدبلوماسي الأمريكي -كان من بينهم بيل ميلر- غرفة يوسف، وأيقظوه من قيلولة، واعتقلوه.
رمزي يوسف بعد إعادته للولايات المتحدة، صورة من وكالة أسوشيتد برس.
في اليوم التالي، سلم المسؤولون الباكستانيون يوسف إلى عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي الذين نقلوه جواً إلى مدينة نيويورك لمحاكمته. كما تلقي المصدر مكافأته ٢ مليون دولار أمريكي.
عندما تم التحقيق مع رمزي، قال إنه فعل ذلك للانتقام للمعاناة التي عانى منها الشعب الفلسطيني على يد إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة.
علي خلفية هذه القضية، وبتهمة الاشتراك في التفجير، تم وفي ٢٥ أغسطس ١٩٩٣، القاء القبض علي الشيخ المصري الضرير عمر عبد الرحمن، سيحكم عليه فيما بعد بالسجن مدى الحياة، وسيظل فيه حتى وفاته في ١٨ فبراير ٢٠١٧ عن عمر ٧٨ عاما.