الطاقة تلك الكلمة التي تختصر الكثير ورائها، والتي تربعت علي قائمة اهتمامات الدول منذ أن صحت أوروبا من غفوتها في العصور الوسطي لتقدم للعالم ما عرف باسم "الثورة الصناعية" في عصر النهضة، فمن الفحم مرورا بالبترول والغاز الطبيعي، حتى مصادر الطاقة المتجددة تنوعت واختلفت الموارد التي أعانت الإنسان على توليد الطاقة اللازمة لكل نواحي حياته من التصنيع إلي السفر حتى إضاءة المساكن التي يعيش فيها، والمستشفيات، والمدارس والجامعات، وكل ما يحيط ببني الإنسان.
غرفة التحكم في المفاعل التجريبي المبرد بالغاز ذو درجة الحرارة العالية في جامعة تسينغهوا ، بكين (الصين)، Photo Credit: Petr Pavlicek/IAEA، IAEA Imagebank، (CC BY-SA 2.0), via Flickr. |
لكن عقود الوفرة في استخدام أهم مصادر الطاقة "النفط" يبدو أنها لن تستمر طويلا، ولأسباب مختلفة، بداية من تحذير الخبراء بإمكانية نضوب تلك الموارد عما قريب إذ استمرت يد الإنسان تنهل منها تلك الكميات المتصاعدة، كما فرضت التغيرات المناخية وعلي رأسها الاحتباس الحراري نفسها.
كما أصبح لزاما علي كل الدول الصناعية تخفيض الانبعاثات الحرارية الصادرة منها، فلم يعد أمامنا رفاهية الاستمرار في العبث بهذا الكوكب، لقد صدقت 195 دولة علي اتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ في مؤتمر "باريس-2015" التاريخي، والهدف الأساسي منها تحويل الاقتصاد العالمي من الاعتماد علي الوقود الأحفوري خلال عقود، وإبطاء سرعة ارتفاع درجة حرارة الأرض، وكان للصين دورا بارزا في هذا الحدث التاريخي ، بقيادتها أكبر مجموعة من الدول المشاركة في المؤتمر والتي عرفت باسم "الـ77+الصين" للموافقة علي الاتفاقية.
ولكن وللأسف الشديد، وبرغم كونها أحد أهم الدول المتسببة في الانبعاثات الحرارية، فقد وجهت الولايات المتحدة ضربة قاصمة لهذه الاتفاقية أعاقتها بشكل كبير عن التحول إلى أرض الواقع، وذلك عندما أصبحت أول دولة في العالم تنسحب منها في 4 نوفمبر / تشرين الثاني 2020 بقرار اتخذه رئيسها السابق دونالد ترامب، وبرغم اعتذار لاحقه "جو بايدن" عن تلك الخطوة، فإنه لم يعيد بلاده لتنضم إلي الاتفاقية مرة أخرى.
على أي حال، وبرغم هذا الموقف الأمريكي المحبط والسلبي للغاية, فلا يزال لدينا بعض الخيارات لنواصل كجماعة دولية العمل ولو بدون واشنطن.
فلدينا على سبيل المثال واحدة من أهم مصادر الطاقة البديلة، لقدرتها العالية علي توليد الطاقة، وما شهدت من تطورات تكنولوجيا الآمن في محطاتها. تبرز هنا "الطاقة النووية" كأحد خيارات دول العالم في رحلة الحفاظ علي الكوكب، وعلي الاقتصاد معا، وهنا يبرز أسم الصين مجددا، بين 29 بلدا حول العالم يستخدمون طاقة نووية آمنة وصديقة للبيئة لتوليد الطاقة الكهربائية من خلال 441 محطة طاقة نووية تزود العالم بـ14% من احتياجاته من الطاقة وفقا للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
الطاقة النووية أرخص أيضا من حيث التكلفة، فعلميا تنتج حبيبة يورانيوم واحدة ما ينتجه طن فحم، أو 474 لتر من النفط !!.
لذا سيكون من المهم بعدما قدمت الصين للعالم مشروعه للقرن الحادي والعشرين "طريق الحرير" أن تضئ له الطريق إلي التنمية والتقدم، وتحافظ علي البيئة علي طول الطريق، مع هدية المائة ألف شجرة التي ستتم زراعتها علي ضفتيه، إنه نمط تنمية متميز لعالم في أمس الحاجة إليه.
المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي :
قلما شهدنا إجماعا عالميا علي مشروع ما، مثل الإجماع الذي حظي به المشروع
الدولي الهادف إلي أثبات أمكانية عمل محطة قوي اندماجية نووية لتوليد الطاقة،
والمعروف باسم المفاعل التجريبي النووي الحراري الدولي ITER، الذي يجري العمل به في مركز أبحاث Cadarache بالقرب من مدينة مارسيليا جنوبي فرنسا.
المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي، © معهد ماكس بلانك لفيزياء البلازما ، TINO SCHULZ / WENDELSTEIN7-X TORUSHALL-2011 / CC BY-SA 3.0 CC BY-SA |
ITER الكلمة اللاتينية التي تعني "الطريق"، أوضحت للعالم طريقه الواحد بهدف استمرار العيش علي هذا الكوكب، وعلي هذا الطريق تسير الصين بالمساهمة الفاعلة في بناء هذا المفاعل وصناعة مكوناته وتوريدها بجوار الاتحاد الأوروبي، روسيا الاتحادية، الهند، كوريا الجنوبية، الولايات المتحدة.
في حال نجحت الصين ورفاقها في مشروعهم، ستربح البشرية مصدرا لا ينضب من الطاقة، مع مخلفات غير مشعة بل يمكن إعادة تدويرها، بنسب آمان أعلي، إذ أن أي خلل في التسلسل العلمي لعملية الاندماج، يسبب توقفها من الأساس، وهذه المميزات هي ما يفسر لنا لماذا تجتمع تلك الدول في ITER.
ITER أيضا في حال نجاحه سيكون نصرا علميا هاما، فجميع محطات الاندماج النووي حاليا –هناك مشاريع مستقلة نفذتها دول مثل ألمانيا والولايات المتحدة-، لا تنتج فائض من الطاقة يكفي لعمل محطات الطاقة الكهربائية، في حين يتم التخطيط لجعل ITER قادر علي توفير طاقة كافية لإنارة مدننا الكبرى التي يعيش فيها ملايين البشر.
هناك وجهات نظر لا تشعر بالحماس تجاه ITER، بسبب التكلفة العالية له والتي تقدر بعشرة مليار يورو، بخلاف التكنولوجيا العالية التطور المستخدمة فيه، ما يجعل ITER ومثله من المشاريع، حكرا علي الدول المتقدمة فقط.
لكن يمكن الرد ببساطة على أصحاب وجهة النظر تلك بأنه قد فاتهم أن الطاقة النووية التقليدية، كانت حكرا في بدايتها علي دول تعد علي أصابع اليد الواحدة، واليوم تتسابق الدول علي تصدير تقنياتها النووية إلي الخارج، كما أنه ليس مبررا منطقيا أن تتوقف حركة العلم والتقدم في دول ما، لان دول أخري تغط في سبات نوم عميق، وإلا لكانت البشرية حتى الآن تحاول إقناع البعض أن المطبعة ليست رجسا من عمل الشيطان.
النووي العائم :
في أطار سعي الصين لطاقة نظيفة، وفي ظل الحقيقة القائلة أن حوالى 70% من
مساحة كوكب الأرض تغطيها المياه، اتجهت الصين لبناء محطات نووية عائمة -أصبحت الصين ثاني أكبر منتج للطاقة النووية في العالم مباشرة خلف الولايات المتحدة-، مع
استكمالها 58 محطة نووية، ومائة محطة في 2030، وكجزء من هذه الخطة هناك 20 محطة
نووية عائمة.
جزيرة صناعية بنتها الصين في بحر الصين الجنوبي، صورة التقطها قمر صناعي تابع لمجموعة Skysat بتاريخ 3 مايو 2020، بنت الصين هذه الجزر في منطقة في جزر سبراتلي المتنازع عليها مع اليابان، وهي جزء كذلك من بحر الصين الجنوبي، المنطقة المتوترة عسكريا أصلا بين الصين وجيرانها ويزيد على ذلك وجود سفن حربية أمريكية في المنطقة، تعد هذه الجزر الصناعية بمثابة رأس حربة صينية في المنطقة، SkySat، planet، (CC BY 2.0)، via wikimedia commons. |
تتميز المحطات التي تعتزم الصين إنشائها بأنها صغيرة بشكل ملحوظ مقارنة بالمحطات التقليدية –حجمها مماثل لحجم سفن السفر والشحن العادية-، وأقل أيضا في تكاليف الإنشاء والتشغيل، وهي أيضا أعلي في معدلات الأمان، كما أنها توفر ميزة هامة أيضا.
أنتجت الحاجة إلي الطاقة لتشغيل المطارات والموانئ والمنارات وكل ما تبنيه الصين في الجزر الصناعية في بحر الصين الجنوبي في السنوات الأخيرة، إلي كميات طاقة هائلة مع بعد مئات الأميال البحرية عن شبكة الطاقة الرئيسية في بر الصين الرئيسي، وقدمت هذه المحطات العائمة حلا ممتازا لهذه المشكلة، وهي تجربة يمكن تعميمها في كثير من بلاد العالم وخصوصا تلك التي يمر بها طريق الحرير.
الصين تضئ الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس :
كانت بريطانيا ذات يوم هي الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، تترامي الأراضي التابعة لتاجها في كل مكان تقريبا من الهند، مرورا بالشرق الأوسط، وصولا إلي كندا، وفي أوج قوتها للأسف لم تقدم للصين التقدم أو حتى تتركها تمارس حقها الطبيعي في الحياة، بل أعتدي الفكر الاستعماري السائد وقتها علي السياسيين ورجال المال في لندن بشكل وحشي عليها فيما عرف باسم "حرب الأفيون".
اليوم انتهت تلك الحقبة ، تغيرت السياسة البريطانية ولم تعد تعتمد علي قوة
السلاح، في الجهة المقابلة فإن الصين اليوم في أوج قوتها، لكنها تتبع سياسة
"القوة الناعمة"، عبر الربح والمنفعة المشتركة، لتقدم للملكة المتحدة
تكنولوجيتها النووية لإنتاج الطاقة للأغراض السلمية، لتصبح أخر محطات طريق الحرير شمال أوروبا تضئ بالنووي
الصيني، كما كانت أكبر شهادة علي مدي التطور الذي حققته الصين في هذا المجال أن
تعتمد عليها دولة نووية فعليا، بل ولديها تاريخ يمتد لعقود طويلة من إنتاج الطاقة النووية، بل والسلاح النووي نفسه.
وهكذا ففي زيارة الرئيس الصيني التاريخية "شي جين بينغ" إلي المملكة المتحدة في أكتوبر 2015، والتي ألتقي فيها بالملكة الراحلة إليزابيث الثانية، وألقي كلمه في مجلس العموم، وعقد مباحثات هامة مع رئيس الوزراء البريطاني حينها ديفيد كاميرون، حوت جعبة شي جين بينغ اتفاقا علي المشاركة في تشييد مفاعلين نوويين في بريطانيا.
الرئيس الصيني شي جين بينغ وعقيلته عند وصولهم للمملكة المتحدة في زيارته التاريخية في أكتوبر 2015، Foreign, Commonwealth & Development Office، (CC BY 2.0)، via wikimedia commons. |
الصين ستتعاون في هذا المشروع الضخم والمقدر قيمته بستة عشر مليار جنية إسترليني "25.9 مليار دولار" مع شركة كهرباء فرنسا "إي.دي.إف"، وسيمثل الصين في هذه المأمورية الضخمة المؤسسة النووية العامة الصينية "سي.جي.أن"، والمؤسسة النووية الوطنية الصينية "سي.أن.أن.سي"، بحصة تتراوح بين 30 : 40% من المشروع.
لقد كان ذلك انجازا كبيرا للتكنولوجيا النووية الصينية، باقتحام سوق من أرقي وأصعب الأسواق في العالم، وشهادة ثقة بإجراءات الأمان في المفاعلات النووية الصينية، وبتلك الخبرة التي أكتسبها الصينيين عبر عقود من العمل، وشهادة تفوق علي التكنولوجيا البريطانية ذاتها في هذا الصدد.
لنضف فوق ذلك أيضا العامل الاقتصادي، والمقصود به هنا ليس تكاليف أنشاء المحطة وفقط، بل تكاليف التشغيل، وكذلك تكلفة أنتاج الكهرباء، كل ذلك يؤثر علي مدي اقتصادية وربحية المشروع، ومع كل هذا تقلل المحطات من اعتماد المملكة المتحدة علي الوقود الأحفوري الذي تستخرجه من بحر الشمال، مما يقلل من انبعاث الكربون، مما يحافظ في النهاية بشكل أكبر علي البيئة.
المفاعلان سيتم إقامتهما في هنكلي بوينت سي، في سمرست بجنوب غربي انجلترا، وسيكونان من الجيل الجديد للمحطات النووية، ذات احتياطات الآمان المرتفعة، فأجهزتها وتقنياتها تمنع حادث مثل "تشرنوبيل" في الاتحاد السوفيتي السابق، إضافة إلي كونها قادرة علي تحمل اصطدام طائرة مما يمنع من أي تأثير لأي هجوم إرهابي علي غرار الحادي عشر من سبتمبر، وهو أمر شديد الأهمية خصوصا في ظل تصاعد مخاوف الأوربيين من قيام تنظيم داعش بالهجوم علي محطاتهم النووية.
تنويه: في نهاية نوفمبر من العام 2022، أعلنت بريطانيا عن استبعاد الشريك الصيني من مشروع محطة سايزويل سي النووية للطاقة، إعلان جاء غداة تصريح قال فيه رئيس الوزراء البريطاني (ريشي سوناك) أن العصر الذهبي لبلاده مع الصين "قد انتهي".
في بلاد الحرمين :
تسعي المملكة العربية السعودية خصوصا في ظل التغييرات السريعة التي تشهدها عبر الأعوام السابقة منذ تولي الملك سلمان سدة الحكم، وبدء الإعداد لمرحلة جديدة من عمر المملكة تشهد انتقال الحكم لجيل جديد من أبناء إلي أحفاد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود.
وهكذا نجد ضمن سياسة المملكة (رؤية 2030) ضرورة نقل اعتماد البلاد علي النفط إلي سلة متعددة للدخل، خصوصا مع
تذبذب أسعاره صعودا وهبوطا بشكل حاد طوال سنوات مضت.
احتياج المملكة للطاقة النووية في السنوات المقبلة سيكون ملحا ، خصوصا إذ أرادت تلبية متطلباتها المتزايدة لإنتاج مياه محلاة من البحر واستخدامها في الزراعة، وكذلك لتوليد الطاقة الكهربائية المنزلية، وهي ضرورة ملحة لخلق صناعات محلية تحل إيراداتها محل ما ستفقده من عائدات النفط.
بخلاف كل ذلك، فإذا اعتمدت السعودية على توليد طاقتها الكهربائية على الطاقة النووية، فإنها ستوفر كميات ضخمة من البترول للتصدير بدلا من استهلاكه محليا، أو على الأقل ستحافظ عليه في الحقول، لتستمر في التصدير لأطول فترة ممكنة أو كما يقال "بيع النفط حتى آخر برميل نفط سيباع في العالم".
في عام 2011 كان المستشار "عبد الغني مليباري" رئيس فريق التعاون العلمي بمدينة "الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة" كان قد حدد هدف للسعودية بحلول عام 2030 ، يتمثل في امتلاك ستة عشر مفاعلا نوويا.
الرئيس شي جين بينغ ، وخلال زيارته للمملكة، وقع مذكرة تفاهم مع السعوديين لإقامة مفاعل نووي في المملكة بتقنية الحرارة العالية والتي يتم تبريدها بالغاز، لتصبح الصين واحدة من خمس دول ستحول السعودية التي عرفها العالم بالنفط إلي السعودية النووية.
هذا النوع من المفاعلات والذي سيمكنه العمل حتى أربعة عقود، لن يكون فقط مصدرا للطاقة، بل سيحد من انبعاث الحرارة في أكبر بلاد العالم تصديرا للنفط وهو أمر يتسق تماما مع نمط "التنمية الايكولوجية" الذي تعتمده الصين محليا للتنمية الاقتصادية والحفاظ علي البيئة في آن واحد، ويبدو أنها في سبيلها لاعتماده وبقوة عالميا، في ربح كبير لمصلحة الكوكب الذي نعيش عليه.
هذه الاتفاقية تتيح أيضا أطارا قانونيا يمكن للسعودية من امتلاك العلم والتكنولوجيا النووية ، من الضروري للسعودية في أطار رؤية 2030 الساعية لتطوير الاقتصاد أن تبقي علي معدلات تصديرها للبترول، وتلبية احتياجها من الطاقة بالمصادر البديلة، خصوصا أن معدلات النمو في استهلاك الطاقة حاليا تتزايد بنسبة 7% سنويا، وهذا المعدل سيجعل السعودية تستهلك في غضون العقدين المقبلين ما يعادل ثلثي الكمية التي تنتجها من النفط، وهو أمر غير مقبول في السياسة السعودية.